فصل: بيان فضيلة خصوص الفقراء من الراضين والقانعين والصادقين

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحياء علوم الدين **


بيان فضيلة خصوص الفقراء

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا ‏"‏‏.‏

فالأول القانع وهذا الراضي ويكاد يشعر هذا بمفهومه‏:‏ أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً كما سيأتي تحقيقه فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر‏.‏

وروي

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم هم جلساء الله تعالى يوم القيامة ‏"‏‏.‏

وروي عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه الراضي عن الله تعالى ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ ما من أحد غني ولا فقير إلا ورد يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا ‏"‏‏.‏

وأوحى الله تعالى إلى إسماعيل عليه السلام‏:‏ اطلبني عند المنكسرة قلوبهم‏.‏

قال‏:‏ ومن هم قال‏:‏ الفقراء الصادقون‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يقول الله تعالى يوم القيامة‏:‏ أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة‏:‏ ومن هم يا ربنا فيقول‏:‏ فقراء المسلمين القانعون بعطائي الراضون بقدري أدخلوهم الجنة‏.‏

فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس في الحساب يترددون ‏"‏‏.‏

فهذا في القانع والراضي وأما الزاهد فسنذكر فضله في الشطر الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع‏.‏

وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ إن الطمع فقر واليأس غنى وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم‏.‏

وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش‏:‏ يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك‏.‏

وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما من أحد إلا وفي عقله نقص وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما الغنى قال‏:‏ قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك‏.‏

وقيل‏:‏ كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله فلما أكل نام فقال لبعض غلمانه‏:‏ إذا قام فجئني به فلما قام جاء به إليه فقال إبراهيم‏:‏ أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فشبعت قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ثم نمت طيباً قال‏:‏ نعم فقال إبراهيم في نفسه‏:‏ فما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر‏.‏

ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً فقال له‏:‏ يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا فقال‏:‏ ألا أدلك على من رضي بشر من هذا قال‏:‏ بلى قال‏:‏ من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة‏.‏

وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول‏:‏ من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد‏.‏

وقال الحسن رحمه الله‏:‏ لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه ثم قرأ ‏"‏ وفي السماء رزقكم وما توعدون فورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ‏"‏‏.‏

وكان أبو ذر رضي الله عنه يوماً في الناس فأتته امرأته فقالت له‏:‏ أتجلس بين هؤلاء والله ما في البيت هفة ولا سفة فقال‏:‏ قربى وذي رحم إن الغني من استغنى عن الناس‏.‏

وقد قيل في هذا المعنى أيضاً‏:‏ يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه مقدراً أي باب منه يغلقه مفكراً كيف تأتيه منيته أغادياً أم بها يسري فتطرقه جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له يا جامع المال أياماً تفرقه المال عندك مخزون لوارثه ما المال مالك إلا يوم تنفقه أرفه ببال فتى يغدو على ثقة أن الذي قسم الأرزاق يرزقه فالعرض منه مصون ما يدنسه والوجه منه جديد ليس يخلقه

بيان فضيلة الفقر

اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر وقال ابن عطاء‏:‏ الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر‏.‏

ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصبر وبيَّنا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر - ومهدنا سبيل طلب الفضيلة في الأعمال والأحوال وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل‏.‏

فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين‏:‏ أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال‏.‏

والثاني فقير حريص مع غني حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص الممسك وأن الغني المنفق ماله في الخيرات أفضل من الفقير الحريص‏.‏

أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع وقد يشهد له ما روي في الخبر‏:‏ أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏‏.‏

وقد استشهد ابن عطاء أيضاً لما سئل عن ذلك فقال‏:‏ الغني أفضل لأنه وصف الحق أما دليله الأول ففيه نظر لأن الخبر قد ورد مفصلاً تفصيلاً يدل على خلاف ذلك‏:‏ وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء فقد روى يزيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ بعثني الفقراء رسولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني رسول الفقراء إليك فقال‏:‏ ‏"‏ مرحباً بك وبمن جئت من عندهم قوم أحبهم ‏"‏ قال‏:‏ قالوا يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء‏:‏ أما خصلة واحدة‏:‏ فإن في الجنة غرفاً ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير والثانية‏:‏ يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام والثالثة‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها ‏"‏ فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ رضينا رضينا‏.‏

فهذا يدل على أن قوله‏:‏ ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏ أي مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن الغني وصف الحق فقد أجابه بعض الشيوخ فقال‏:‏ أترى أن الله تعالى غني بالأسباب والأعراض فانقطع ولم ينطق وأجاب آخرون فقالوا‏:‏ إن التكبر من صفات الحق فينبغي أن يكون أفضل من التواضع ثم قالوا‏:‏ بل هذا يدل على أن الفقر أفضل لأن صفات العبودية فضل للعبد كالخوف والرجاء وصفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن نازعني واحداً منهما قصمته ‏"‏‏.‏

وقال سهل‏:‏ حب العز والبقاء شرك في الربوبية ومنازعة فيها لأنهما من صفات الرب تعالى فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغني والفقير وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها إذ كما يناقض قول من فضل الغني بأنه صفة الحق بالتكبر فكذلك يناقض قول من ذم الغني لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه وصف الرب تعالى والجهل والغفلة وصف العبد وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر‏:‏ وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده إذ به يظهر فضله والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى ولا الفقر مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه وكم من غني لم يشغله الغني عن الله عز وجل مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن المقصد وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن والفقر قد يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى في القلب والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه أو في وصاله وربما يكون شغله في الفراق أكثر وربما يكون شغله في الوصال أكثر والدنيا معشوقة الغافلين المحروم منها مشغول بطلبها والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها فإذن إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة ووجود الحاجة قدر الحاجة أفضل من فقده إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر فالفقير عن الخطر أبعد إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن العصمة أن لا يقدر ولذلك قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏:‏ بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر‏.‏

وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأعصار الكثيرة إلا نادراً‏.‏

ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر - والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر - زجر الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح عليه السلام‏:‏ لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان‏.‏

وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ إن لكل أمة عجلاً وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم ‏"‏ وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضاً واستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة إن كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول للدنيا‏:‏ ‏"‏ إليك عني ‏"‏ إذ كانت تتمثل له بزينتها‏.‏

وكان علي كرم الله وجهه يقول‏:‏ يا صفراء غري غيري ويا بيضاء غري غيري‏.‏

وذلك لاستشعاره في نفسه ظهور مبادئ الاغترار بها لولا أن رأى برهان ربه وذلك هو الغنى المطلق إذ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ‏"‏‏.‏

وإذا كان ذلك بعيداً فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات لأنهم لا ينفكون في القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار راحة في بذلها وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن حبه ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافي القلب عن الدنيا وزهرتها والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمناً بالله انصرف لا محالة إلى الله إذ لا يتصور قلب فارغ وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان فالمتردد بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوبه عن الدنيا وأنسه بها فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط فإن تساويا فيه تساوت درجتهما إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه فإن وجد لقلبه إليه التفاتاً فليعلم أنه كان مغروراً فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كنت مستكنة فيه فتحقق إذن أنه كان مغروراً وأن العشق كان مستكناً في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالاً أو بعيداً فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف بل هو تحقيق فإنك لو شاهدت بنور البصيرة لرأيته مشحوناً بأصناف السباع وأنواع الهوام مثل الغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب والرياء وغيرها وهي التي لا تزال تفترسك وتنهشك إن غفلت عنها لحظة إلا أنك محجوب العين عن مشاهدتها فإذا انكشف الغطاء ووضعت في قبرك عاينتها وقد تمثلت لك بصورها وأشكالها الموافقة لمعانيها فترى بعينك العقارب والحيات وقد أحدقت بك في قبرك وإنما هي صفاتك الحاضرة قد انكشفت لك صورها فإن أردت أن تقتلها وتقهرها وأنت قادر عليها قبل الموت فافعل وإلا فوطن نفسك على لدغها ونهشها لصميم قلبك فضلاً عن ظاهر بشرتك والسلام‏.‏

كتاب الفقر والزهد

وهو الكتاب الرابع من ربع المنجيات من كتاب إحياء علوم الدين

بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله الذي تسبح له الرمال وتسجد له الظلال وتتدكدك من هيبته الجبال خلق الإنسان من الطين اللازب والصلصال وزين صورته بأحسن تقويم وأتم اعتدال وعصم قلبه بنور الهداية عن ورطات الضلال وأذن له في قرع باب الخدمة بالغدو والآصال ثم كحل بصيرة المخلص في خدمته بنور العبرة حتى لاحظ بضيائه حضرة الجلال فلاح له من البهجة والبهاء والكمال ما استقبح دون مبادي إشراقه كل حسن وجمال واستثقل كل ما صرفه عن مشاهدته وملازمته غاية الاستثقال وتمثل له ظاهر الدنيا في صورة امرأة جميلة تميس وتختال وانكشف له باطنها عن عجوز شوهاء عجنت من طينة الخزي وضربت في قالب النكال وهي متلفلفة بجلبابها لتخفي قبائح أسرارها بلطائف السحر والاحتيال وقد نصبت حبائلها في مدارج الرجال فهي تقتنصهم بضروب المكر والاغتيال ثم لا تجتزئ معهم بالخلف في مواعيد الوصال بل تقيدهم مع قطع الوصال بالسلاسل والأغلال وتبليهم بأنواع البلايا والأنكال فلما انكشف للعارفين منها قبائح الأسرار والأفعال زهدوا فيها زهد المبغض لها فتركوها وتركوا التفاخر والتكاثر بالأموال وأقبلوا بكنه هممهم على حضرة الجلال واثقين منها بوصال ليس دونه انفصال ومشاهدة أبدية لا يعتريها فناء ولا زوال والصلاة والسلام على سيدنا محمد سيد الأنبياء وعلى آله خير آل‏.‏

أما بعد فإن الدنيا عدوة لله عز وجل بغرورها ضل من ضل وبمكرها زل من زل فحبها رأس الخطايا والسيئات وبغضها أم الطاعات وأس القربات‏.‏

وقد استقصينا ما يتعلق بوصفها وذم الحب لها في كتاب ذم الدنيا من ربع المهلكات ونحن الآن نذكر فضل البغض لها والزهد فيها فإنه رأس المنجيات فلا مطمع في النجاة إلا بالانقطاع عن الدنيا والبعد منها لكن

مقاطعتها إما أن تكون بانزوائها عن العبد ويسمى ذلك فقراً وإما بانزواء العبد عنها ويسمى ذلك زهداً ولكل واحد منهما درجة في نيل السعادات وحظ في الإعانة على الفوز والنجاة ونحن الآن نذكر حقيقة الفقر والزهد ودرجاتهما وأقسامهما وشروطهما وأحكامها ونذكر الفقر في شطر من الكتاب والزهد في شطر آخر منه ونبدأ بذكر الفقر فنقول‏:‏ الشطر الأول من الكتاب وفيه بيان حقيقة الفقر وبيان فضيلة الفقر مطلقاً وبيان خصوص فضيلة الفقراء وبيان فضيلة الفقر على الغنى وبيان أدب الفقر في فقره وبيان أدبه في قبوله العطاء وبيان تحريم السؤال بغير ضرورة وبيان مقدار الغنى المحرم للسؤال وبيان أحوال السائلين والله الموفق بلطفه وكرمه‏.‏

بيان حقيقة الفقر واختلاف أحوال الفقير وأساميه

اعلم أن الفقر عبارة عن فقد ما هو محتاج إليه أما فقد ما لا حاجة إليه فلا يسمى فقراً وإن كان المحتاج إليه موجوداً مقدوراً عليه لم يكن المحتاج فقيراً وإذا فهمت هذا لم تشك في أن كل موجود سوى الله تعالى فهو فقير لأنه محتاج إلى دوام الوجود في ثاني الحال ودوام وجود مستفاد من فضل الله تعالى وجوده فإن كان في الوجود موجود ليس وجوده مستفاد له من غيره فهو الغني المطلق ولا يتصور أن يكون مثل هذا الموجود إلا واحداً فليس في الوجود إلا غني واحد وكل من عداه فإنهم محتاجون إليه ليمدوا وجودهم بالدوام وإلى هذا الحصر الإشارة بقوله تعالى ‏"‏ والله الغني وأنتم الفقراء ‏"‏ هذا معنى الفقر مطلقاً ولكننا لسنا نقصد بيان الفقر المطلق بل الفقر من المال على الخصوص وإلا ففقر العبد بالإضافة إلى أصناف حاجاته لا ينحصر لأن حاجاته لا حصر لها‏.‏

ومن جملة ما يتوصل إليه بالمال وهو الذي نريد الآن بيانه فقط فنقول‏:‏ كل فاقد للمال فإنا نسميه فقيراً بالإضافة إلى المال الذي فقده إذا كان ذلك المفقود محتاجاً إليه في حقه ثم يتصور أن يكون له خمسة أحوال عند الفقر ونحن نميزها ونخصص كل حال باسم لنتوصل بالتمييز إلى ذكر أحكامها‏:‏ الحالة الأولى وهي العليا‏:‏ أن يكون بحيث لو أتاه المال لكرهه وتأذى به وهرب من أخذه مبغضاً له ومحترزاً من شره وشغله وهو الزهد واسم صاحبه الزاهد‏.‏

الثانية‏:‏ أن يكون بحيث لا يرغب فيه رغبة يفرح لحصوله ولا يكرهه كراهة يتأذى بها ويزهد فيه لو أتاه وصاحب هذه الحالة يسمى راضياً‏.‏

الثالثة‏:‏ أن يكون وجود المال أحب إليه من عدمه لرغبة له فيه ولكن لم يبلغ من رغبته أن ينهض لطلبه بل إن أتاه صفواً عفواً أخذه وفرح به وإن افتقر إلى تعب في طلبه لم يشتغل به وصاحب هذه الحالة نسميه قانعاً إذ قنع نفسه بالموجود حتى ترك الطلب مع ما فيه من الرغبة الضعيفة‏.‏

الرابعة‏:‏ أن يكون تركه الطلب لعجزه وإلا فهو راغب فيه رغبة لو وجد سبيلاً إلى طلبه ولو بالتعب لطلبه أو هو مشغول بالطلب وصاحب هذه الحالة نسميه بالحريص‏.‏

الخامسة‏:‏ أن يكون ما فقده من المال مضطراً إليه كالجائع الفاقد للخبز والعاري الفاقد للثوب ويسمى صاحب هذه الحالة مضطراً كيفما كانت رغبته في الطلب إما ضعيفة أو قوية وقلما فهذه خمسة أحوال‏:‏ أعلاها الزهد والاضطرار إن انضم إليه الزهد وتصور ذلك فهو أقصى درجات الزهد كما سيأتي بيانه ووراء هذه الأحوال الخمسة حالة هي أعلى من الزهد وهي أن يستوي عنده وجود المال وفقده فإن وجده لم يفرح به ولم يتأذ وإن فقده فكذلك وإن فقده

فكذلك بل حاله كما كان حال عائشة رضي الله تعالى عنها إذ أتاها مائة ألف درهم من العطاء فأخذتها وفرقتها من يومها فقالت خادمتها‏:‏ ما استطعت فيما فرقت اليوم أن تشتري لنا بدرهم لحماً نفطر عليه فقالت‏:‏ لو ذكرتيني لفعلت فمن هذا حاله لو كانت الدنيا بحذافيرها في يده وخزائنه لم تضره إذ هو يرى الأموال في خزانة الله تعالى لا في يد نفسه فلا يفرق بين أن تكون في يده أو في يد غيره وينبغي أن يسمى صاحب هذه الحالة المستغني لأنه غني عن فقد المال ووجوده جميعاً وليفهم من هذا الاسم معنى يفارق اسم الغني المطلق على الله تعالى وعلى كل من كثر ماله من العباد فإن كثر ماله من العباد وهو يفرح به فهو فقير إلى بقاء المال في يده وإنما هو غني عن دخول المال في يده لا عن بقائه فهو إذن فقير من وجه وأما هذا الشخص فهو غني عن دخول المال في يده وعن بقائه في يده وعن خروجه من يده أيضاً فإنه ليس يتأذى به ليحتاج إلى إخراجه وليس يفرح به ليحتاج إلى بقائه‏.‏

وليس فاقداً له ليحتاج إلى الدخول في يده فغناه إلى العموم أميل فهو إلى الغنى الذي هو وصف الله تعالى أقرب وإنما قرب العبد من الله تعالى بقرب الصفات لا بقرب المكان ولكنا لا نسمي صاحب هذه الحالة غنياً بل مستغنياً ليبقى الغني اسماً لمن له الغنى المطلق عن كل شيء‏.‏

وأما هذا العبد فإن استغنى عن المال وجوداً أو عدماً فلم يستغن عن أشياء أخر سواه ولم يستغن عن مدد توفيق الله له ليبقى استغناؤه الذي زين الله به قلبه فإن القلب المقيد بحب المال رقيق والمستغني عنه حر والله تعالى هو الذي أعتقه من هذا الرق فهو محتاج إلى دوام هذا العتق والقلوب متقلبه بين الرق والحرية في أوقات متقاربة لأنها بين إصبعين من أصابع الرحمن فلذلك لم يكن اسم الغني مطلقاً عليه مع هذا الكمال إلا مجازاً‏.‏

واعلم أن الزهد درجة هي كمال الأبرار وصاحب هذه الحالة من المقربين فلا جرم صار الزهد في حقه نقصاناً إذ حسنات الأبرار سيئات المقربين وهذا لأن الكاره للدنيا مشغول بالدنيا كما أن الراغب فيها مشغول بها والشغل بما سوى الله تعالى حجاب عن الله تعالى إذ لا بعد بينك وبين الله تعالى حتى يكون البعد حجاباً فإنه أقرب إليك من حبل الوريد وليس هو في مكان حتى تكون السماوات والأرض حجاباً بينك وبينه فلا حجاب بينك وبينه إلا شغلك بغيره وشغلك بنفسك وشهواتك شغل بغيره وأنت لا تزال مشغولاً بنفسك وبشهوات نفسك فكذلك لا تزال محجوباً عنه فالمشغول بحب نفسه مشغول عن الله تعالى والمشغول ببغض نفسه أيضاً مشغول عن الله تعالى بكل ما سوى الله مثاله مثال الرقيب الحاضر في مجلس يجمع العاشق والمعشوق فإن التفت قلب العاشق إلى الرقيب وإلى بغضه واستثقاله وكراهة حضوره فهو في حال اشتغال قلبه ببغضه مصروف عن التلذذ بمشاهدة معشوقه ولو استغرقه العشق لغفل عن غير المعشوق ولم يلتفت إليه فكما أن النظر إلى غير المعشوق لحبه عند حضور العاشق شرك في العشق ونقص فيه فكذا النظر إلى غير المحبوب لبغضه شرك فيه ونقص ولكن أحدهما أخف من الآخر بل الكمال في أن لا يلتفت القلب إلى غير المحبوب بغضاً وحباً فإنه كما لا يجتمع في القلب حبان في حالة واحدة فلا يجتمع أيضاً بغض وحب في حالة واحدة فالمشغول ببغض الدنيا غافل عن الله كالمشغول بحبها إلا أن المشغول بحبها غافل وهو في غفلته سالك في طريق البعد والمشغول ببغضها غافل وهو في غفلته سالك في طريق القرب إذ يرجى له أن ينتهي حاله إلى أن تزول هذه الغفلة وتتبدل بالشهود فالكمال له مرتقب لأن بغض الدنيا مطية توصل إلى الله فالمحب والمبغض كرجلين في طريق الحج مشغولين بركوب الناقة وعلفها وتسييرها ولكن أحدهما مستقبل الكعبة والآخر لها فهما سيان بالإضافة إلى الحال في أن كل واحد منهما محجوب عن الكعبة ومشغول عنها ولكن حال المستقبل محمود بالإضافة إلى المستدبر إذ يرجى له الوصول إليها وليس محموداً بالإضافة إلى المعتكف في الكعبة الملازم لها الذي لا يخرج منها حتى يفتقر إلى الاشتغال بالدابة في الوصول إليها فلا ينبغي أن تظن بغض الدنيا مقصود في عينه بل الدنيا عائق عن الله تعالى لا وصول إليه إلا يدفع العائق ولذلك قال أبو سليمان الداراني رحمه الله‏:‏ من زهد في الدنيا واقتصر عليه فقد استعجل الراحة بل ينبغي أن يشتغل بالآخرة فبين أن سلوك طريق الآخرة وراء الزهد كما أن سلوك طريق الحج وراء دفع الغريم العائق عن الحج فإذن قد ظهر أن الزهد في الدنيا إن أريد به عدم الرغبة في وجودها وعدمها فهو غاية الكمال وإن أريد به الرغبة في عدمها فهو كمال بالإضافة إلى درجة الراضي والقانع والحريص ونقصان بالإضافة إلى درجة المستغني بل الكمال في حق المال أن يستوي عندك المال والماء وكثرة الماء في جوارك لا تؤذيك بأن تكون على شاطئ البحر ولا قلته تؤذيك إلا في قدر الضرورة مع أن المال محتاج إليه كما أن الماء محتاج إليه فلا يكون قلبك مشغولاً بالفرار عن جوار الماء الكثير ولا يبغض الماء الكثير بل تقول‏:‏ أشرب منه بقدر الحاجة وأسقي منه عباد الله بقدر الحاجة ولا أبخل به على أحد فهكذا ينبغي أن يكون المال لأن الخبز والماء واحد في الحاجة وإنما الفرق بينهما في قلة أحدهما وكثرة الآخر وإذا عرفت الله تعالى ووثقت بتدبيره الذي دبر به العالم‏:‏ علمت أن قدر حاجتك من الخبز يأتيك لا محالة ما دمت حياً كما يأتيك قدر حاجتك من الماء على ما سيأتي بيانه في كتاب التوكل إن شاء الله قال أحمد بن أبي الحواري‏:‏ قلت لأبي سليمان الداراني‏:‏ قال مالك بن دينار للمغيرة‏:‏ اذهب إلى البيت فخذ الركوة التي أهديتها لي فإن العدو يوسوس لي أن اللص قد أخذها قال سليمان‏:‏ هذا من ضعف قلوب الصوفية‏:‏ قد زاده في الدنيا ما غلبه من أخذها فبين أن كراهية كون الركوة في بيته التفات إليها سببه الضعف والنقصان‏.‏

فإن قلت‏:‏ فما بال الأنبياء والأولياء هربوا من المال ونفروا منه كل النفار فأقول‏:‏ كما هربوا من الماء على معنى أنهم ما شربوا أكثر من حاجاتهم ففروا عما وراءه ولم يجمعوه في القرب والروايا يدبرونه مع أنفسهم بل تركوه في النهار والآبار والبراري للمحتاجين إليه لا أنهم كانت قلوبهم مشغولة بحبه أو بغضه وقد حملت خزائن الأرض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وإلى أبي بكر وعمر رضي الله عنهما فأخذوها ووضعوها في مواضعاً وما هربوا منها إذا كان يستوي عندهم المال والماء والذهب والحجر وما نقل عنهم من امتناع فإما أن ينقل عمن خاف أن لو أخذه أن يخدعه المال ويقيد قلبه فيدعوه إلى الشهوات وهذا حال الضعفاء فلا جرم البغض للمال والهرب منه في حقهم كمال وهذا حكم جميع الخلق لأن كلهم ضعفاء إلا الأنبياء والأولياء وإما أن ينقل عن قوي بلغ الكمال ولكن أظهر الفرار والنفار نزولاً إلى درجة الضعفاء ليقتدوا به في الترك إذ لو اقتدوا به في الأخذ لهلكوا كما يفر الرجل المعزم بين يدي أولاده من الحية لا لضعفه عن أخذها ولكن لعلمه أنه لو أخذها أخذها أولاده إذا رأوها فيهلكون والسير بسير الضعفاء ضرورة الأنبياء والأولياء والعلماء فقد عرفت إذن أن المراتب ست وأعلاها رتبة المستغني ثم الزاهد ثم الراضي ثم القانع ثم الحريص وأما المضطر فيتصور في حقه أيضاً الزهد والرضا و القناعة ودرجة تختلف بحسب اختلاف هذه الأحوال واسم الفقير طلق على هذه الخمسة‏.‏

أما تسمية المستغني فقيراً فلا وجه لها بهذا المعنى بل إن سمي فقيراً فبمعنى آخر وهو معرفته بكونه محتاجاً إلى الله تعالى في جميع أموره عامة وفي بقاء استغنائه عن المال خاصة فيكون اسم الفقير له كاسم العبد لمن عرف نفسه بالعبودية وأقر بها فإنه أحق باسم العبد من الغافلين‏.‏

وإن كان اسم العبد عاماً للخلق فكذلك اسم الفقير عام ومن عرف نفسه بالفقر إلى الله تعالى فهو أحق باسم الفقير فاسم الفقير مشترك بين هذين المعنيين وإذا عرفت هذا الاشتراك فهمت أن قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ أعوذ بك من الفقر ‏"‏ وقوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ كاد الفقر أن يكون كفراً ‏"‏ لا يناقض قوله‏:‏ ‏"‏ أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً ‏"‏ إذ فقر المضطر هو الذي استعاذ منه والفقر الذي هو الاعتراف بالمسكنة والذلة والافتقار إلى الله تعالى هو الذي سأله في دعائه صلى الله عليه وسلم وعلى كل عبد مصطفى من أهل الأرض والسماء‏.‏

أما من الآيات فيدل عليه قوله تعالى ‏"‏ للفقراء المهاجرين الذين أخرجوا من ديارهم وأموالهم ‏"‏ الآية‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضرباً في الأرض ‏"‏ ساق الكلام في معرض المدح ثم قدم وصفه بالفقر على وصفهم بالهجرة والإحصار وفيه دلالة ظاهرة على مدح الفقير‏.‏

وأما الأخبار في مدح الفقر فأكثر من أن تحصى‏:‏ روى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه‏:‏ ‏"‏ أي الناس خير ‏"‏ فقالوا‏:‏ موسر من المال يعطي حق الله من نفسه وماله‏.‏

فقال‏:‏ ‏"‏ نعم الرجل هذا وليس به ‏"‏ قالوا‏:‏ فمن خير الناس يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ فقير يعطي جهده ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم لبلال‏:‏ ‏"‏ الق الله فقيراً ولا تلقه غنياً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن الله يحب الفقير المتعفف أبا العيال ‏"‏‏.‏

وفي الخبر المشهور‏:‏ ‏"‏ يدخل فقراء أمتي الجنة قبل أغنيائها بخمسمائة عام ‏"‏‏.‏

وفي حديث آخر ‏"‏ بأربعين خريفاً ‏"‏ أي أربعين سنة فيكون المراد به تقدير تقدم الفقير الحريص على الغني الحريص والتقدير بخمسمائة عام تقدير الفقير الزاهد على الغني الراغب وما ذكرناه من اختلاف درجات الفقر يعرفك بالضرورة تفاوتاً بين الفقراء في درجاتهم وكأن الفقير الحريص على درجة من خمس وعشرين درجة من الفقير الزاهد إذ هذه نسبة الأربعين إلى خمسمائة ولا تظنن أن تقدير رسول الله صلى الله عليه وسلم يجري على لسانه جزافاً وبالاتفاق بل لا يستنطق صلى الله عليه وسلم إلا بحقيقة الحق فإنه لا ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة ‏"‏ فإنه تقدير تحقيق لا محالة لكن ليس في قوة غيره أن يعرف علة تلك النسبة إلا بتخمين فأما بالتحقيق فلا إذ يعلم أن النبوة عبارة عما يختص به النبي ويفارق به غيره وهو يختص بأنواع من الخواص‏:‏ أحدها أن يعرف حقائق الأمور المتعلقة بالله وصفاته والملائكة والدار الآخرة لا كما يعلمه غيره بل مخالفاً له بكثرة وبزيادة اليقين والتحقيق والكشف‏.‏

والثاني‏:‏ أن له في نفسه صفة بها تتم له الأفعال الخارقة للعادات كما أن لنا صفة بها تتم الحركات المقرونة بإرادتنا وباختيارنا وهي القدرة وإن كانت القدرة والمقدور جميعاً من فعل الله تعالى‏.‏

والثالث‏:‏ أن له صفة بها يبصر الملائكة ويشاهدهم كما أن للبصير صفة بها يفارق الأعمى حتى يدرك بها المبصرات‏.‏

والرابع‏:‏ أن له صفة بها يدرك ما سيكون في الغيب إما في اليقظة أو في المنام إذ بها يطالع اللوح المحفوظ فيرى ما فيه من الغيب فهذه كمالات وصفات يعلم ثبوتها للأنبياء ويعلم انقسام كل واحد منها إلى أقسام وربما يمكننا أن نقسمها إلى أربعين وإلى خمسين وإلى ستين ويمكننا أيضاً أن نتكلف تقسيمها إلى ستة وأربعين بحيث تقع الرؤيا الصحيحة جزءاً واحداً من جملتها ولكن تعيين طريق واحد من طرق التقسيمات الممكنة لا يمكن إلا بظن وتخمين فلا ندري تحقيقاً أنه الذي أراده رسول الله صلى الله عليه وسلم أم لا وإنما المعلوم مجامع الصفات التي بها تتم النبوة وأصل انقسامها وذلك لا يرشدنا إلى معرفة علة التقدير فكذلك نعلم أن الفقراء لهم درجات كما سبق‏.‏

فأما لم كان هذا الفقير الحريص مثلاً على نصف سدس درجة الفقير الزاهد حتى لم يبق له التقدم بأكثر من أربعين سنة إلى الجنة واقتضى ذلك التقدم بخمسمائة عام فليس في قوة البشر غير الأنبياء الوقوف على ذلك إلا بنوع من التخمين ولا وثوق به والغرض التنبيه على منهاج التقدير في أمثال هذه الأمور فإن الضعيف الإيمان قد يظن أن ذلك يجري من رسول الله صلى الله عليه وسلم على سبيل الاتفاق وحاشا منصب النبوة على ذلك ولنرجع إلى نقل الأخبار فقد قال صلى الله عليه وسلم أيضاً‏:‏ ‏"‏ خير هذه الأمة فقراؤها وأسرعها تضجعاً في الجنة ضعفاؤها ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن لي حرفتين اثنتين فمن أحبهما فقد أحبني ومن أبغضهما فقد وروي أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا محمد إن الله عز وجل يقرأ عليك السلام ويقول‏:‏ أتحب أن أجعل هذه الجبال ذهباًوتكون معك أينما كنت فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال‏:‏ ‏"‏ يا جبريل إن الدنيا دار من لا دار له ومال من لا مال ولها يجمع من لا عقل له ‏"‏ فقال له جبريل‏:‏ يا محمد ثبتك الله بالقول الثابت‏.‏

وروي أن المسيح صلى الله عليه وسلم مر في سياحته برجل نائم ملتف في عباءة فأيقظه وقال‏:‏ يا نائم قم فاذكر الله تعالى فقال‏:‏ ما تريد مني إني قد تركت الدنيا لأهلها فقال له‏:‏ فنم إذن يا حبيبي‏.‏

ومر موسى صلى الله عليه وسلم برجل نائم على التراب وتحت رأسه لبنة ووجهه ولحيته في التراب وهو متزر بعباءة فقال‏:‏ يا رب عبدك هذا في الدنيا ضائع فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ يا موسى أما علمت أني إذا نظرت إلى عبد بوجهي كله زويت عنه الدنيا كلها‏.‏

وعن أبي رافع أنه قال‏:‏ ورد على رسول الله صلى الله عليه وسلم ضيف فلم يجد عنده ما يصلحه فأرسلني إلى رجل من يهود خيبر وقال‏:‏ ‏"‏ قل له يقول لك محمد أسلفني أو بعني دقيقاً إلى هلال رجب ‏"‏ قال فأتيته فقال‏:‏ لا والله إلا برهن فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال‏:‏ ‏"‏ أما والله إني لأمين في أهل السماء أمين في أهل الأرض ولو باعني أو أسلفني لأديت إليه اذهب بدرعي هذا إليه فارهنه فلما خرجت نزلت هذه الآية ‏"‏ ولا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجاً منهم زهرة الحياة الدنيا ‏"‏ الآية‏.‏

وهذه الآية تعزية لرسول الله صلى الله عليه وسلم عن الدنيا‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الفقر أزين بالمؤمن من العذار الحسن على خد الفرس ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أصبح منكم معافى في جسمه آمناً في سربه عنده قوت يومه فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها ‏"‏‏.‏

وقال كعب الأحبار‏:‏ قال الله تعالى لموسى عليه السلام‏:‏ يا موسى إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين‏.‏

وقال عطاء الخراساني‏:‏ مر نبي من الأنبياء بساحل فإذا هو برجل يصطاد حيتاناً فقال‏:‏ بسم الله وألقى الشبكة فلم يخرج فيها شيء ثم أمر بآخر فقال باسم الشيطان وألقى شبكته فخرج فيها من الحيتان ما كان يتقاعس من كثرتها‏.‏

فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا رب ما هذا وقد علمت أن كل ذلك بيدك فقال الله تعالى للملائكة‏:‏ اكشفوا لعبدي عن منزلتيهما فلما رأى ما أعد الله لهذا من الكرامة ولذاك من الهوان قال‏:‏ رضيت يا رب‏.‏

وقال نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اطلعت في الجنة فرأيت أكثر أهلها الفقراء واطلعت في النار فرأيت أكثر أهلها الأغنياء والنساء ‏"‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ فقلت أين الأغنياء حبسهم الجد ‏"‏ وفي حديث آخر ‏"‏ فرأيت أكثر أهل النار النساء فقلت‏:‏ ما شأنهن فقيل شغلهن الأحمران الذهب والزعفران ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تحفة المؤمن في الدنيا الفقر ‏"‏‏.‏

وفي الخبر ‏"‏ آخر الأنبياء دخولاً الجنة سليمان بن داود عليهما السلام لمكان ملكه وآخر أصحابي دخولاً الجنة عبد الرحمن بن عوف لأجل غناه ‏"‏ وفي حديث آخر‏:‏ ‏"‏ رأيته يدخل الجنة زحفاً ‏"‏‏.‏

وقال المسيح صلى الله عليه وسلم‏:‏ بشدة يدخل الغني الجنة‏.‏

وفي خبر آخر عن أهل البيت رضي الله عنهم أنه صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا أحب الله عبداً ابتلاه فإذا أحبه الحب البالغ اقتناه ‏"‏ قيل‏:‏ وما اقتناه قال‏:‏ ‏"‏ لم يترك له أهلاً ولا مالاً ‏"‏‏.‏

وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ إذا رأيت الفقر مقبلاً فقل مرحباً بشعار الصالحين وإذ رأيت الغني مقبلاً فقل ذنب عجلت عقوبته ‏"‏‏.‏

وقال موسى عليه السلام‏:‏ يا رب من أحباؤك من خلقك حتى أحبهم لأجلك فقال‏:‏ كل فقير فقير ‏"‏ فيمكن أن يكون الثاني للتوكيد ويمكن أن يراد به الشديد الضر‏.‏

وقال المسيح صلوات الله عليه وسلامه‏:‏ إني لأحب المسكنة وأبغض النعماء وكان أحب ولما قالت سادات العرب وأغنياؤهم للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ اجعل لنا يوماً ولهم يوماً يجيئون إليك ولا نجيء ونجيء إليك ولا يجيئون يعنون بذلك الفقراء مثل بلال وسليمان وصهيب وأبي ذر وخباب بن الأرت وعمار بن ياسر وأبي هريرة وأصحاب الصفة من الفقراء رضي الله عنهم أجمعين أجابهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى ذلك وذلك لأنهم شكوا إليه التأذي برائحتهم وكان لباس القوم الصوف في شدة الحر فإذا عرقوا فاحت الروائح من ثيابهم فاشتد ذلك على الأغنياء منهم الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري وعباس بن مرداس السلمي وغيرهم فأجابهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يجمعهم وإياهم مجلس واحد فنزل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه ولا تعد عيناك عنهم ‏"‏ يعني الفقراء ‏"‏ تريد زينة الحياة الدنيا ‏"‏ يعني الأغنياء ‏"‏ ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا ‏"‏ يعني الأغنياء إلى قوله‏:‏ ‏"‏ وقل الحق من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ‏"‏ الآية‏.‏

واستأذن ابن أم مكتوم على النبي صلى الله عليه وسلم وعنده رجل من أشراف قريش فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى‏:‏ ‏"‏ عبس وتولى أن جاءه العمى وما يدريك لعله يزكى أو يذكر فتنفعه الذكرى ‏"‏ يعني ابن مكتوم ‏"‏ أما من استغنى فأنت له وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ يؤتى بالعبد يوم القيامة فيعتذر الله تعالى إليه كما يعتذر الرجل للرجل في الدنيا فيقول‏:‏ وعزتي وجلالي ما زويت الدنيا عنك لهوانك علي ولكن لما أعددت لك من الكرامة والفضيلة اخرج يا عبدي إلى هذه الصفوف فمن أطعمك فيّ أو كساك فيّ يريد بذلك وجهي فخذ بيده فهو لك والناس يومئذ قد ألجمهم العرق فيتخلل الصفوف وينظر من فعل ذلك به فيأخذ بيده ويدخله الجنة ‏"‏‏.‏

وقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ أكثروا معرفة الفقراء واتخذوا عندهم الأيادي فإن لهم دولة ‏"‏ قالوا‏:‏ يا رسول الله وما دولتهم قال‏:‏ ‏"‏ إذا كان يوم القيامة قيل لهم انظروا فمن أطعمكم كسرة أو سقاكم شربة أو كساكم ثوباً فخذوا بيده ثم امضوا به إلى الجنة ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ دخلت الجنة فسمعت حركة أمامي فنظرت فإذا بلال ونظرت في أعلاها فإذا فقراء أمتي وأولادهم ونظرت في أسفلها فإذا فيه من الأغنياء والنساء قليل فقلت‏:‏ يا رب ما شأنهم قال‏:‏ أما النساء فأضر بهن الأحمران الذهب والحرير وأما الأغنياء فاشتغلوا بطول الحساب وتفقدت أصحابي فلم أر عبد الرحمن بن عوف ثم جاءني بعد ذلك وهو يبكي فقلت‏:‏ ما خلفك عني قال‏:‏ يا رسول الله ما وصلت إليك حتى لقيت المشيبات وظننت أني لا أراك فقلت‏:‏ ولم قال‏:‏ كنت أحاسب بمالي ‏"‏‏.‏

فانظر إلى هذا وعبد الرحمن صاحب السابقة العظيمة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو من العشرة المخصوصين بأنهم من أهل الجنة وهو من الأغنياء الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إلا من قال بالمال هكذا وهكذا ‏"‏ ومع هذا فقد استضر بالغنى إلى هذا الحد‏.‏

ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل فقير فلم ير له شيئاً فقال‏:‏ لو قسم نور هذا على أهل الأرض لوسعهم ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ألا أخبركم بملوك أهل الجنة ‏"‏ قالوا‏:‏ بلى يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذي طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره ‏"‏‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه فقال‏:‏ ‏"‏ يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاهاً فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت‏:‏ نعم بأبي أنت وأمي يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع الباب وقال‏:‏ ‏"‏ السلام عليكم أأدخل ‏"‏ فقالت‏:‏ ادخل يا رسول الله‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ أنا ومن معي ‏"‏ قالت‏:‏ ومن معك يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ عمران ‏"‏ فقالت فاطمة‏:‏ والذي بعثك بالحق نبياً ما علي إلا عباءة‏.‏

قال‏:‏ ‏"‏ اصنعي بها هكذا وهكذا ‏"‏ وأشار بيده فقالت‏:‏ هذا جسدي قد واريته فكيف برأسي فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال‏:‏ ‏"‏ شدي على رأسك ‏"‏ ثم أذنت له فدخل فقال‏:‏ ‏"‏ السلام عليك يا ابنتاه كيف أصبحت ‏"‏ قالت‏:‏ أصبحت والله وجعة وزادني وجعاً على ما بي أني لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بي الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ لا تجزعي يا ابنتاه فوالله ما ذقت طعاماً منذ ثلاث وإني لأكرم على الله منك ولو سألت ربي لأطعمني ولكني آثرت الآخرة على الدنيا ‏"‏ ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها‏:‏ ‏"‏ أبشري فوالله إنك لسيدة نساء أهل الجنة ‏"‏ قال‏:‏ فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قال‏:‏ ‏"‏ آسية سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب ‏"‏ ثم قال لها‏:‏ ‏"‏ اقنعي بابن عمك فوالله لقد زوجتك سيداً في الدنيا وسيداً في الآخرة ‏"‏‏.‏

وروي عن علي كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال‏:‏ بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء ‏"‏‏.‏

وأما الآثار‏:‏ فقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ ذو الدرهمين أشد حبساً - أو قال أشد حساباً - من ذي الدرهم‏.‏

وأرسل عمر رضي الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار فجاء حزيناً كئيباً فقالت امرأته‏:‏ أحدث أمر قال‏:‏ أشد من ذلك ثم قال‏:‏ أريني درعك الخلق فشقه وجعله صرراً وفرقه ثم قام يصلي ويبكي إلى الغداة ثم قال‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يدخل فقراء أمتي الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج ‏"‏‏.‏

وقال أبو هريرة‏:‏ ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب‏:‏ رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد‏.‏

وقيل‏:‏ جاء فقير إلى مجلس الثوري رحمه الله فقال له‏:‏ تخط لو كنت غنياً لما قربتك وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء‏.‏

وقال المؤمل‏:‏ ما رأيت الغني أذل منه في مجلس الثوري ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثوري رحمه الله‏.‏

وقال بعض الحكماء‏:‏ مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف الفقر لنجا منهما جميعاً ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعاً ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعاً‏.‏

وقال ابن عباس‏:‏ ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر‏.‏

وقال يحيى بن معاذ‏:‏ حبك للفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين‏.‏

وفي الأخبار عن الكتب السالفة‏:‏ أن لله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام‏:‏ احذر أن أمقتك فتسقط من عيني فأصب عليك الدنيا صباً‏.‏

ولقد كانت عائشة رضي الله عنها تفرق مائة ألف درهم في يوم واحد يوجهها إليها معاوية وابن عامر وغيرهما وإن درعها لمرقوع وتقول لها الجارية‏:‏ لو اشتريت لك بدرهم لحماً تفطرين عليه‏!‏ وكانت صائمة فقالت‏:‏ لو ذكرتيني لفعلت وكان قد أوصاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ ‏"‏ إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعي درعك حتى ترقعيه ‏"‏‏.‏

وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها فألح عليه الرجل فقال له إبراهيم‏:‏ أتريد أن أمحو اسمي من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا أفعل ذلك أبداً‏.‏

بيان فضيلة خصوص الفقراء من الراضين والقانعين والصادقين

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ طوبى لمن هدي إلى الإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به ‏"‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا ‏"‏‏.‏

فالأول القانع وهذا الراضي ويكاد يشعر هذا بمفهومه‏:‏ أن الحريص لا ثواب له على فقره ولكن العمومات الواردة في فضل الفقر تدل على أن له ثواباً كما سيأتي تحقيقه فلعل المراد بعدم الرضا هو الكراهة لفعل الله في حبس الدنيا عنه ورب راغبٍ في المال لا يخطر بقلبه إنكار على الله تعالى ولا كراهة في فعله فتلك الكراهة هي التي تحبط ثواب الفقر‏.‏

وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ إن لكل شيء مفتاحاً ومفتاح الجنة حب المساكين والفقراء لصبرهم هم جلساء الله تعالى يوم القيامة ‏"‏‏.‏

وروي عن علي كرم الله وجهه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ أحب العباد إلى الله تعالى الفقير القانع برزقه الراضي عن الله تعالى ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم اجعل قوت آل محمد كفافا ‏"‏‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ ما من أحد غني ولا فقير إلا ورد يوم القيامة أنه كان أوتي قوتاً في الدنيا ‏"‏‏.‏

وأوحى الله تعالى إلى إسماعيل عليه السلام‏:‏ اطلبني عند المنكسرة قلوبهم‏.‏

قال‏:‏ ومن هم قال‏:‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا أحد أفضل من الفقير إذا كان راضياً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يقول الله تعالى يوم القيامة‏:‏ أين صفوتي من خلقي فتقول الملائكة‏:‏ ومن هم يا ربنا فيقول‏:‏ فقراء المسلمين القانعون بعطائي الراضون بقدري أدخلوهم الجنة‏.‏

فيدخلونها ويأكلون ويشربون والناس في الحساب يترددون ‏"‏‏.‏

فهذا في القانع والراضي وأما الزاهد فسنذكر فضله في الشطر الثاني من الكتاب إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما الآثار في الرضا والقناعة فكثيرة ولا يخفى أن القناعة يضادها الطمع‏.‏

وقد قال عمر رضي الله تعالى عنه‏:‏ إن الطمع فقر واليأس غنى وإنه من يئس عما في أيدي الناس وقنع استغنى عنهم‏.‏

وقال أبو مسعود رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما من يوم إلا وملك ينادي من تحت العرش‏:‏ يا ابن آدم قليل يكفيك خير من كثير يطغيك‏.‏

وقال أبو الدرداء رضي الله تعالى عنه‏:‏ ما من أحد إلا وفي عقله نقص وذلك انه إذا أتته الدنيا بالزيادة ظل فرحاً مسروراً والليل والنهار دائبان في هدم عمره ثم لا يحزنه ذلك ويح ابن آدم ما ينفع مال يزيد وعمر ينقص‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما الغنى قال‏:‏ قلة تمنيك ورضاك بما يكفيك‏.‏

وقيل‏:‏ كان إبراهيم بن أدهم من أهل النعم بخراسان فبينما هو يشرف من قصر له ذات يوم إذ نظر إلى رجل في فناء القصر وفي يده رغيف يأكله فلما أكل نام فقال لبعض غلمانه‏:‏ إذا قام فجئني به فلما قام جاء به إليه فقال إبراهيم‏:‏ أيها الرجل أكلت الرغيف وأنت جائع قال‏:‏ نعم قال‏:‏ فشبعت قال‏:‏ نعم قال‏:‏ ثم نمت طيباً قال‏:‏ نعم فقال إبراهيم في نفسه‏:‏ فما أصنع بالدنيا والنفس تقنع بهذا القدر‏.‏

ومر رجل بعامر بن عبد القيس وهو يأكل ملحاً وبقلاً فقال له‏:‏ يا عبد الله أرضيت من الدنيا بهذا فقال‏:‏ ألا أدلك على من رضي بشر من هذا قال‏:‏ بلى قال‏:‏ من رضي بالدنيا عوضاً عن الآخرة‏.‏

وكان محمد بن واسع رحمة الله عليه يخرج خبزاً يابساً فيبله بالماء ويأكله بالملح ويقول‏:‏ من رضي من الدنيا بهذا لم يحتج إلى أحد‏.‏

وقال الحسن رحمه الله‏:‏ لعن الله أقواماً أقسم لهم الله تعالى ثم لم يصدقوه ثم قرأ ‏"‏ وفي السماء رزقكم وما توعدون ورب السماء والأرض إنه لحق مثل ما أنكم تنطقون ‏"‏‏.‏

وكان أبو ذر رضي الله عنه يوماً في الناس فأتته امرأته فقالت له‏:‏ أتجلس بين هؤلاء والله ما في البيت هفة ولا سفة فقال‏:‏ يا هذه إن بين أيدينا عقبة كئوداً لا ينجو منها إلا كل مخف وقال ذو النون رحمه الله‏:‏ أقرب الناس إلى الكفر ذو فاقة لا صبر له‏.‏

وقيل لبعض الحكماء‏:‏ ما مالك فقال‏:‏ التجمل في الظاهر والقصد في الباطن واليأس مما في أيدي الناس‏.‏

وروي أن الله عز وجل قال في بعض الكتب السالفة المنزلة‏:‏ يا ابن آدم لو كانت الدنيا كلها لك لم يكن منها إلا القوت فإذا أنا أعطيتك منها القوت وجعلت حسابها على غيرك فأنا محسن إليك وقد قيل في القناعة‏.‏

اضرع إلى الله لا تضرع إلى الناس ** واقنع بيأس فإن العز في الياس

واستغن عن كل ذي قربى وذي رحم ** إن الغني من استغنى عن الناس‏.‏

وقد قيل في هذا المعنى أيضاً‏:‏

يا جامعاً مانعاً والدهر يرمقه ** مقدراً أي باب منه يغلقه

مفكراً كيف تأتيه منيته ** أغادياً أم بها يسري فتطرقه

جمعت مالاً فقل لي هل جمعت له ** يا جامع المال أياماً تفرقه

المال عندك مخزون لوارثه ** ما المال مالك إلا يوم تنفقه

فالعرض منه مصون ما يدنسه ** والوجه منه جديد ليس يخلقه

إن القناعة من يحلل بساحتها ** لم يبق في ظلها هم يؤرقه

بيان فضيلة الفقر

اعلم أن الناس قد اختلفوا في هذا فذهب الجنيد والخواص والأكثرون إلى تفضيل الفقر وقال ابن عطاء‏:‏ الغني الشاكر القائم بحقه أفضل من الفقير الصابر‏.‏

ويقال أن الجنيد دعا على ابن عطاء لمخالفته إياه في هذا فأصابته محنة وقد ذكرنا ذلك في كتاب الصبر وبيَّنا أوجه التفاوت بين الصبر والشكر - ومهدنا سبيل طلب الفضيلة في الأعمال والأحوال وأن ذلك لا يمكن إلا بتفصيل‏.‏

فأما الفقر والغنى إذا أخذا مطلقاً لم يسترب من قرأ الأخبار والآثار في تفضيل الفقر ولا بد فيه من تفصيل فنقول إنما يتصور الشك في مقامين‏:‏ أحدهما فقير صابر ليس بحريص على الطلب بل هو قانع أو راض بالإضافة إلى غني منفق ماله في الخيرات ليس حريصاً على إمساك المال‏.‏

والثاني فقير حريص مع غني حريص إذ لا يخفى أن الفقير القانع أفضل من الغني الحريص المقام الأول فقير صابر ليس بحريص على الطلب أما الأول فربما يظن أن الغني أفضل من الفقير لأنهما تساويا في ضعف الحرص على المال والغني متقرب بالصدقات والخيرات والفقير عاجز عنه وهذا هو الذي ظنه ابن عطاء فيما نحسبه

فأما الغني المتمتع بالمال وإن كان في مباح فلا يتصور أن يفضل على الفقير القانع وقد يشهد له ما روي في الخبر‏:‏ أن الفقراء شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سبق الأغنياء بالخيرات والصدقات والحج والجهاد فعلمهم كلمات في التسبيح وذكر لهم أنهم ينالون بها فوق ما ناله الأغنياء فتعلم الأغنياء ذلك فكانوا يقولونه فعاد الفقراء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه فقال عليه السلام‏:‏ ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏‏.‏

وقد استشهد ابن عطاء أيضاً لما سئل عن ذلك فقال‏:‏ الغني أفضل لأنه وصف الحق أما دليله الأول ففيه نظر لأن الخبر قد ورد مفصلاً تفصيلاً يدل على خلاف ذلك‏:‏ وهو أن ثواب الفقير في التسبيح يزيد على ثواب الغني وأن فوزهم بذلك الثواب فضل الله يؤتيه من يشاء فقد روى يزيد بن أسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال‏:‏ بعثني الفقراء رسولاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إني رسول الفقراء إليك فقال‏:‏ ‏"‏ مرحباً بك وبمن جئت من عندهم قوم أحبهم ‏"‏ قال‏:‏ قالوا يا رسول الله إن الأغنياء ذهبوا بالخير يحجون ولا نقدر عليه ويعتمرون ولا نقدر عليه وإذا مرضوا بعثوا بفضل أموالهم ذخيرة لهم فقال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ بلغ عني الفقراء أن لمن صبر واحتسب منكم ثلاث خصال ليست للأغنياء‏:‏ أما خصلة واحدة‏:‏ فإن في الجنة غرفاً ينظر إليها أهل الجنة كما ينظر أهل الأرض إلى نجوم السماء لا يدخلها إلا نبي فقير أو شهيد فقير أو مؤمن فقير والثانية‏:‏ يدخل الفقراء الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم وهو خمسمائة عام والثالثة‏:‏ سبحان الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر وقال الفقير مثل ذلك لم يلحق الغني بالفقير ولو أنفق فيها عشرة آلاف درهم وكذلك أعمال البر كلها ‏"‏ فرجع إليهم فأخبرهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ رضينا رضينا‏.‏

فهذا يدل على أن قوله‏:‏ ‏"‏ ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء ‏"‏ أي مزيد ثواب الفقراء على ذكرهم‏.‏

وأما قوله‏:‏ إن الغني وصف الحق فقد أجابه بعض الشيوخ فقال‏:‏ أترى أن الله تعالى غني بالأسباب والأعراض فانقطع ولم ينطق وأجاب آخرون فقالوا‏:‏ إن التكبر من صفات الحق فينبغي أن يكون أفضل من التواضع ثم قالوا‏:‏ بل هذا يدل على أن الفقر أفضل لأن صفات العبودية فضل للعبد كالخوف والرجاء وصفات الربوبية لا ينبغي أن ينازع فيها ولذلك قال تعالى فيما روى عنه نبينا صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الكبرياء ردائي والعظمة إزاري فمن وقال سهل‏:‏ حب العز والبقاء شرك في الربوبية ومنازعة فيها لأنهما من صفات الرب تعالى فمن هذا الجنس تكلموا في تفضيل الغني والفقير وحاصل ذلك تعلق بعمومات تقبل التأويلات وبكلمات قاصرة لا تبعد مناقضتها إذ كما يناقض قول من فضل الغني بأنه صفة الحق بالتكبر فكذلك يناقض قول من ذم الغني لأنه وصف للعبد بالعلم والمعرفة فإنه وصف الرب تعالى والجهل والغفلة وصف العبد وليس لأحد أن يفضل الغفلة على العلم فكشف الغطاء عن هذا هو ما ذكرناه في كتاب الصبر‏:‏ وهو أن ما لا يراد لعينه بل يراد لغيره فينبغي أن يضاف إلى مقصوده إذ به يظهر فضله والدنيا ليست محذورة لعينها ولكن لكونها عائقة عن الوصول إلى الله تعالى ولا الفقر مطلوباً لعينه لكن لأن فيه فقد العائق عن الله تعالى وعدم الشاغل عنه وكم من غني لم يشغله الغني عن الله عز وجل مثل سليمان عليه السلام وعثمان وعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما وكم من فقير شغله الفقر وصرفه عن المقصد وغاية المقصد في الدنيا هو حب الله تعالى والأنس به ولا يكون ذلك إلا بعد معرفته وسلوك سبيل المعرفة مع الشواغل غير ممكن والفقر قد يكون من الشواغل كما الغنى قد يكون من الشواغل وإنما الشاغل على التحقيق حب الدنيا إذ لا يجتمع معه حب الله تعالى في القلب والمحب للشيء مشغول به سواء كان في فراقه أو في وصاله وربما يكون شغله في الفراق أكثر وربما يكون شغله في الوصال أكثر والدنيا معشوقة الغافلين المحروم منها مشغول بطلبها والقادر عليها مشغول بحفظها والتمتع بها فإذن إن فرضت فارغين عن حب المال بحيث صار المال في حقهما كالماء استوى الفاقد والواجد إذ كل واحد غير متمتع إلا بقدر الحاجة ووجود الحاجة قدر الحاجة أفضل من فقده إذ الجائع يسلك سبيل الموت لا سبيل المعرفة وإن أخذت الأمر باعتبار الأكبر فالفقير عن الخطر أبعد إذ فتنة السراء أشد من فتنة الضراء ومن العصمة أن لا يقدر ولذلك قال الصحابة رضي الله تعالى عنهم‏:‏ بلينا بفتنة الضراء فصبرنا وبلينا بفتنة السراء فلم نصبر‏.‏

وهذه خلقة الآدميين كلهم إلا الشاذ الفذ الذي لا يوجد في الأعصار الكثيرة إلا نادراً‏.‏

ولما كان خطاب الشرع مع الكل لا مع ذلك النادر - والضراء أصلح للكل دون ذلك النادر - زجر الشرع عن الغنى وذمه وفضل الفقر ومدحه حتى قال المسيح عليه السلام‏:‏ لا تنظروا إلى أموال أهل الدنيا فإن بريق أموالهم يذهب بنور إيمانكم‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ تقليب الأموال يمص حلاوة الإيمان‏.‏

وفي الخبر‏:‏ ‏"‏ إن لكل أمة عجلاً وعجل هذه الأمة الدينار والدرهم ‏"‏ وكان أصل عجل قوم موسى من حلية الذهب والفضة أيضاً واستواء المال والماء والذهب والحجر إنما يتصور للأنبياء عليهم السلام والأولياء ثم يتم لهم ذلك بعد فضل الله تعالى بطول المجاهدة إن كان النبي وكان علي كرم الله وجهه يقول‏:‏ يا صفراء غري غيري ويا بيضاء غري غيري‏.‏

وذلك لاستشعاره في نفسه ظهور مبادئ الاغترار بها لولا أن رأى برهان ربه وذلك هو الغنى المطلق إذ قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ‏"‏ ليس الغنى عن كثرة العرض إنما الغنى غنى النفس ‏"‏‏.‏

وإذا كان ذلك بعيداً فإذن الأصلح لكافة الخلق فقد المال وإن تصدقوا به وصرفوه إلى الخيرات لأنهم لا ينفكون في القدرة على المال عن أنس بالدنيا وتمتع بالقدرة عليها واستشعار راحة في بذلها وكل ذلك يورث الأنس بهذا العالم وبقدر ما يأنس العبد بالدنيا يستوحش من الآخرة وبقدر ما يأنس بصفة من صفاته سوى صفة المعرفة بالله يستوحش من الله ومن حبه ومهما انقطعت أسباب الأنس بالدنيا تجافي القلب عن الدنيا وزهرتها والقلب إذا تجافى عما سوى الله تعالى وكان مؤمناً بالله انصرف لا محالة إلى الله إذ لا يتصور قلب فارغ وليس في الوجود إلا الله تعالى وغيره فمن أقبل على غيره فقد تجافى عنه ومن أقبل عليه تجافى عن غيره ويكون إقباله على أحدهما بقدر تجافيه عن الآخر وقربه من أحدهما بقدر بعده من الآخر ومثلهما مثل المشرق والمغرب فإنهما جهتان فالمتردد بينهما يقدر ما يقرب من أحدهما يبعد عن الآخر بل عين القرب من أحدهما هو عين البعد من الآخر فعين حب الدنيا هو عين بغض الله تعالى فينبغي أن يكون مطمح نظر العارف قلبه في عزوبه عن الدنيا وأنسه بها فإذن فضل الفقير والغني بحسب تعلق قلبيهما بالمال فقط فإن تساويا فيه تساوت درجتهما إلا أن هذا مزلة قدم وموضع غرور فإن الغني ربما يظن أنه منقطع القلب عن المال ويكون دفيناً في باطنه وهو لا يشعر به وإنما يشعر به إذا فقده فليجرب نفسه بتفريقه أو إذا سرق منه فإن وجد لقلبه إليه التفاتاً فليعلم أنه كان مغروراً فكم من رجل باع سرية له لظنه أنه منقطع القلب عنها فبعد لزوم البيع وتسليم الجارية اشتعلت من قلبه النار التي كنت مستكنة فيه فتحقق إذن أنه كان مغروراً وأن العشق كان مستكناً في الفؤاد استكنان النار تحت الرماد وهذا حال كل الأغنياء إلا الأنبياء والأولياء وإذا كان ذلك محالاً أو بعيداً فلنطلق القول بأن الفقر أصلح لكافة الخلق وأفضل لأن علاقة الفقير وأنسه بالدنيا أضعف وبقدر ضعف علاقته يتضاعف ثواب تسبيحاته وعباداته فإن حركات اللسان ليست مرادة لأعيانها بل ليتأكد بها الأنس بالمذكور ولا يكون تأثيرها في إثارة الأنس في قلب فارغ من غير المذكور كتأثيرها في قلب مشغول ولذلك قال بعض السلف‏:‏ مثل من تعبد وهو في طلب الدنيا مثل من يطفئ النار بالحلفاء ومثل من يغسل يده من الغمر بالسمك‏.‏

وقال أبو سليمان الداراني رحمه الله تعالى‏:‏ تنفس فقير دون شهوة لا يقدر عليها‏:‏ أفضل من عبادة غني ألف عام‏.‏

وعن الضحاك قال‏:‏ من دخل السوق فرأى شيئاً يشتهيه فصبر واحتسب كان خيراً له من ألف

دينار ينفقها كلها في سبيل الله تعالى‏.‏

وقال رجل لبشر بن الحارث رحمه الله‏:‏ ادع لي فقد أضر بي العيال فقال‏:‏ إذا قال لك عيالك ليس عندنا دقيق ولا خبز فادع الله في ذلك الوقت فإن دعاءك أفضل من دعائي‏.‏

وكان يقول‏:‏ مثل الغني المتعبد مثل روضة على مزبلة ومثل الفقير المتعبد مثل عقد الجوهر في جيد الحسناء‏.‏

وقد كانوا يكرهون سماع علم المعرفة من الأغنياء وقد قال أبو بكر الصديق رضي الله عنه‏:‏ اللهم إني أسألك الذل عند النصف من نفسي والزهد فيما جاوز الكفاف‏.‏

وإذا كان مثل الصديق رضي الله عنه في كماله يحذر من الدنيا ووجودها فكيف يشك في أن فقد المال أصلح من وجوده هذا مع أن أحسن أحوال الغني أن يأخذ حلالاً وينفق طيباً ومع ذلك فيطول حسابه في عرصات القيامة ويطول انتظاره ومن نوقش الحساب فقد عذب ولهذا تأخر عبد الرحمن بن عوف عن الجنة إذ كان مشغولاً بالحساب كما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولهذا قال أبو الدرداء رضي الله عنه‏:‏ ما أحب أن لي حانوتاً على باب المسجد ولا تخطئني فيه صلاة وذكر وأربح كل يوم خمسين ديناراً وأتصدق بها في سبيل الله تعالى قيل‏:‏ ولذلك قال سفيان رحمه الله‏:‏ اختار الفقراء ثلاثة أشياء واختار الأغنياء ثلاثة أشياء‏:‏ اختار الفقراء راحة النفس وفراغ القلب وخفة الحساب واختار الأغنياء تعب النفس وشغل القلب وشدة الحساب‏.‏

وما ذكره ابن عطاء من أن الغني وصف الحق فهو بذلك أفضل فهو صحيح ولكن إذا كان العبد غنياً عن وجود المال وعدمه جميعاً بأن يستوي عنده كلاهما فأما إذا كان غنياً بوجوده ومفتقراً إلى بقائه فلا يضاهي غناه غنى الله تعالى لأن الله تعالى غني بذاته لا بما يتصور زواله والمال يتصور زواله بأن يسرق وما ذكره من الرد عليه بأن الله ليس غنياً بالأعراض والأسباب صحيح في ذم غني يريد بقاء المال وما ذكرت من أن صفات الحق لا تليق بالعبد غير صحيح بل العلم من صفاته وهو أفضل شيء للعبد بل منتهى العبد أن يتخلق بأخلاق الله تعالى وقد سمعت بعض المشايخ يقول‏:‏ إن سألك الطريق إلى الله تعالى قبل أن يقطع الطريق تصير الأسماء التسعة والتسعون أوصافاً له‏:‏ أي يكون له من كل واحد نصيب وأما التكبر فلا يليق بالعبد فإن التكبر على من لا يستحق التكبر عليه ليس من صفات الله تعالى وأما التكبر على من يستحقه كتكبر المؤمن على الكافر وتكبر العالم على الجاهل والمطيع على العاصي فيليق به نعم قد يراد بالتكبر الزهو والصلف والإيذاء وليس ذلك من وصف الله تعالى وإنما وصف الله تعالى أنه أكبر من كل شيء وأنه يعلم أنه كذلك والعبد مأمور به بأنه يطلب أعلى المراتب إن قدر عليه ولكن بالاستحقاق كما هو حقه لا بالباطل والتلبيس فعلى العبد أن يعلم أن المؤمن أكبر من الكافر والمطيع أكبر من العاصي والعالم أكبر من الجاهل والإنسان أكبر من البهيمة والجماد والنبات وأقرب إلى الله تعالى منها فلو رأى بهذه الصفة رؤية محققة لا شك فيها لكانت صفة التكبر حاصلة له ولائقة به وفضيلة في حقه إلا أنه لا سبيل له إلى معرفته فإنه ذلك موقوف على الخاتمة وليس يدري الخاتمة كيف تكون وكيف تتفق فلجهله بذلك وجب أن لا يعتقد لنفسه رتبة فوق رتبة الكافر إذ ربما يختم للكافر بالإيمان وقد يختم له بالكفر فلم يكن ذلك لائقاً به لقصور علمه عن معرفة العاقبة ولما تصور أن يعلم الشيء على ما هو به كان العلم كمالاً في حقه لأنه في صفات الله تعالى ولما كانت معرفة بعض الأشياء قد تضره صار ذلك العلم نقصاناً في حقه إذ ليس من أوصاف الله تعالى علم يضره فمعرفة الأمور التي لا ضرر فيها هي التي تتصور في العبد من صفات الله تعالى فلا جرم هو منتهى الفضيلة وبه فضل الأنبياء والأولياء والعلماء فإذن لو استوى عنده وجود المال وعدمه فهذا نوع من الغنى يضاهي بوجه من الوجوه الغنى الذي يوصف به الله سبحانه وتعالى فهو فضيلة أما الغنى بوجود المال فلا فضيلة فيه أصلاً فهذا بيان نسبة حال الفقير القانع إلى حال الغني الشاكر‏.‏

في نسبة حال الفقير الحريص إلى حال الغني الحريص ولنفرض هذا في شخص واحد هو طلب للمال وساع فيه وفاقد له ثم وجده فله حالة الفقد وحالة الوجود فأي حالتيه أفضل فنقول‏:‏ ننظر فإن كان مطلوبه ما لا بد منه في المعيشة وكان قصده أن يسلك سبيل الدين ويستعين به عليه فحال الوجود أفضل لأن الفقر يشغله بالطلب وطالب القوت لا يقدر على الفكر والذكر إلا قدرة مدخولة بشغل والمكفي هو القادر ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ اللهم اجعل قوت آل محمد كفافاً ‏"‏ وقال‏:‏ ‏"‏ كاد الفقر أن يكون كفراً ‏"‏ أي الفقر مع الاضطرار فيما لا بد منه وإن كان المجلوب فوق الحاجة أو كان المطلوب قدر الحاجة ولكن لم يكن المقصود الاستعانة به على سلوك سبيل الدين فحالة الفقر أفضل وأصلح لأنهما استويا في الحرص وحب المال واستويا في أن كل واحد منهما ليس يقصد به الاستعانة على طريق الدين واستويا في أن كل واحد منهما ليس يتعرض لمعصية بسبب الفقر والغنى ولكن افترقا في أن الواجد يأنس بما وجده فيتأكد حبه في قلبه ويطمئن إلى الدنيا والفاقد المضطر يتجافى قلبه عن الدنيا وتكون الدنيا عنده كالسجن الذي يبغي الخلاص منه ومهما استوت الأمور كلها وخرج من الدنيا رجلان أحدهما أشد ركوناً إلى الدنيا فحاله أشد لا محالة إذ يلتفت قلبه إلى الدنيا ويستوحش من الآخرة بقدر تأكد أنسه بالدنيا وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن روح القدس نفث في روعي‏:‏ أحبب من أحببت فإنك مفارقه ‏"‏ وهذا تنبيه على أن فراق المحبوب شديد فينبغي أن تحب من لا يفارقك وهو الله تعالى ولا تحب ما يفارقك وهو الدنيا فإنك إذا أحببت الدنيا كرهت لقاء الله تعالى فيكون قدومك بالموت على ما تكرهه وفراقك لما تحبه وكل من فارق محبوباً فيكون أذاه في فراقه بقدر حبه وقدر أنسه وأنس الواجد للدنيا القادر عليها أكثر من أنس الفاقد لها وإن كان حريصاً عليها فإذن قد انكشف بهذا التحقيق أن الفقر هو الأشرف والأفضل والأصلح لكافة الخلق إلا في موضعين‏:‏ أحدهما غني مثل غنى عائشة رضي الله عنها يستوي عنده الوجود والعدم فيكون الوجود مزيداً له إذ يستفيد به أدعية الفقراء والمساكين وجمع همهم والثاني الفقر عن مقدار الضرورة فإن ذلك يكاد أن يكون كفراً ولا خير فيه بوجه من الوجوه إلا إذا كان وجوده يبقي حياته ثم يستعين بقوته وحياته على الكفر والمعاصي ولو مات جوعاً لكانت معاصيه أقل فالأصلح له أن يموت جوعاً ولا يجد ما يضطر إليه سبيلاً فهذا تفصيل القول في الغنى والفقر‏.‏

ويبقى النظر في فقير حريص متكالب على طلب المال ليس له هم سواه وفي غنى دونه في الحرص على حفظ المال ولم يكن تفجعه بفقد المال لو فقده كتفجع الفقير بفقره فهذا في محل النظر والأظهر أن بعدهما عن الله تعالى بقدر قوة تفجعهما لفقد المال وقربهما بقدر ضعف بيان آداب الفقير في فقره‏:‏ اعلم أن للفقير آداباً في باطنه ومخالطته وأفعاله ينبغي أن يراعيها‏.‏

فأما أدب باطنه فإنه لا يكون فيه كراهية لما ابتلاه الله تعالى به من الفقر أعني أنه لا يكون كارهاً فعل الله تعالى من حيث إنه فعله - وإن كان كارهاً للفقر - كالمحجوم يكون كارهاً للحجامة لتألمهبها ولا يكون كارهاً فعل الحجام ولا كارهاً للحجام بل ربما يتقلد منه منة فهذا أقل درجاته وهو واجب ونقيضه حرام ومحبط ثواب الفقر وهو معنى قوله عليه السلام‏:‏ ‏"‏ يا معشر الفقراء أعطوا الله الرضا من قلوبكم تظفروا بثواب فقركم وإلا فلا ‏"‏ وأرفع من هذا أن لا يكون كارهاً للفقر بل يكون راضياً به وأرفع منه أن يكون طالباً له وفرحاً به لعلمه بغوائل الغنى ويكون متوكلاً في باطنه على الله تعالى واثقاً به في قدر ضرورته أنه يأتيه لا محالة ويكون كارهاً للزيادة على الكفاف‏.‏

وقد قال علي كرم الله وجهه‏:‏ إن لله تعالى عقوبات بالفقر ومثوبات بالفقر من علامات الفقر إذا كان مثوبة أن يحسن عليه خلقه ويطيع به ربه ولا يشكو حاله ويشكر الله تعالى على فقره ومن علاماته - إذا كان عقوبة - أن يسوء خلقه ويعصي ربه بترك طاعته ويكثر الشكاية ويتسخط القضاء وهذا يدل أن كل فقير فليس بمحمود بل المحمود الذي لا يتسخط ويرضى أو يفرح بالفقر ويرضى لعله بثمرته إذ قيل‏:‏ ما أعطى عبد شيئاً من الدنيا إلا قيل له‏:‏ خذه على ثلاثة أثلاث‏:‏ شغل وهم وطول حساب‏.‏

وأما أدب ظاهره‏:‏ فأن يظهر التعفف والتجمل ولا يظهر الشكوى والفقر بل يستر فقره ويستر أنه يستره ففي الحديث ‏"‏ إن الله تعالى يحب الفقير المتعفف أبا العيال ‏"‏‏.‏

وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف ‏"‏‏.‏

وقال سفيان‏:‏ أفضل الأعمال التجمل عند المحنة‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ ستر الفقر من كنوز البر‏.‏

وأما في الأعمال فأدبه‏:‏ أن لا يتواضع لغني لأجل غناه بل يتكبر عليه‏.‏

قال علي كرم الله وجهه‏:‏ ما أحسن تواضع الغني للفقير رغبة في ثواب الله تعالى وأحسن منه تيه الفقير على الغني ثقة بالله عز وجل فهذه رتبة وأقل منها أن لا يخالط الأغنياء ولا يرغب في مجالستهم لأن ذلك من مبادئ الطمع‏.‏

قال الثوري رحمه الله‏:‏ إذا خالط الفقير الأغنياء فاعلم أنه مراء وإذا خالط السلطان فاعلم أنه لص‏.‏

وقال بعض العارفين‏:‏ إذا خالط الفقير الأغنياء انحلت عروته فإذا طمع فيهم انقطعت عصمته وأما أدبه في أفعاله‏:‏ فأن لا يفتر بسبب الفقر عن عبادة ولا يمنع بذل قليل ما يفضل عنه فإن ذلك جهد المقل وفضله أكثر من أموال كثيرة تبذل عن ظهر غني‏.‏

روى زيد بن أسلم قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ درهم من الصدقة أفضل

عند الله من مائة ألف درهم ‏"‏‏.‏

قيل‏:‏ وكيف ذلك يا رسول الله قال‏:‏ ‏"‏ أخرج رجل من عرض ماله مائة ألف درهم فتصدق بها وأخرج رجل درهماً من درهمين لا يملك غيرهما طيبة به نفسه فصار صاحب الدرهم أفضل من صاحب المائة ألف ‏"‏‏.‏

وينبغي أن لا يدخر مالاً بل يأخذ قدر الحاجة ويخرج الباقي وفي الادخار ثلاث درجات‏:‏ إحداها أن لا يدخر إلا ليومه وليلته وهي درجة الصديقين‏.‏

والثانية‏:‏ أن يدخر لأربعين يوماً فإن ما زاد عليه داخل في طول الأمل وقد فهم العلماء ذلك من ميعاد الله تعالى لموسى عليه السلام ففهم منه الرخصة في أمل الحياة أربعين يوماً وهذه درجة المتقين‏.‏

والثالثة‏:‏ أن يدخر لسنته وهي أقصى المراتب وهي رتبة الصالحين‏.‏

ومن زاد في الادخار على هذا فهو واقع في غمار العموم خارج عن حيز الخصوص بالكلية فغنى الصالح الضعيف في طمأنينة قلبه في قوت سنته وغنى الخصوص في أربعين يوماً وغنى خصوص الخصوص في يوم وليل‏.‏

وقد قسم النبي صلى الله عليه وسلم نساءه على مثل هذه الأقسام فبعضهن كان يعطيها قوت سنة عند حصول ما يحصل وبعضهن قوت أربعين يوماً وليلة وهو قسم عائشة وحفصة‏.‏

بيان آداب الفقير في قبول العطاء إذا جاءه بغير سؤال

ينبغي أن يلاحظ الفقير فيما جاءه ثلاثة أمور‏:‏ نفس المال وغرض المعطي وغرضه في الأخذ‏.‏

أما نفس المال فينبغي أن يكون حلالاً خالياً عن الشبهات كلها فإن كان فيه شبهة فليتحرز من أخذه وقد ذكرنا في كتاب الحلال والحرام درجات الشبهة وما يجب اجتنابه وما يستحب‏.‏

وأما غرض المعطي فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون غرضه تطبيب قلبه وطلب محبته وهو الهدية أو الثواب وهو الصدقة والزكاة والذكر والرياء والسمعة إما على التجرد وإما ممزوجاً ببقية الأغراض‏.‏

أما الأول - وهو الهدية - فلا بأس بقبولها فإن قبولها سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن ينبغي أن لا يكون فيها منة‏.‏

فإن كان فيها منة فالأولى تركها فإن علم أن بعضها مما تعظم

فيه المنة فليرد البعض دون البعض فقد أهدي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم سمن وأقط وكان صلى الله عليه وسلم يقبل من بعض الناس ويرد على بعض‏.‏

وقال‏:‏ ‏"‏ لقد هممت أن لا أتهب إلا من قرشي أو ثقفي أو أنصاري أو دوسي ‏"‏ وفعل هذا جماعة من التابعين‏.‏

وجاءت إلى فتح الموصلي صرة فيها خمسين درهماً فقال‏:‏ حدثنا عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ من أتاه رزق من غير مسألة فرده فأنما يرده على الله ‏"‏‏.‏

ثم فتح الصرة فأخذ منها درهماً ورد سائرها‏.‏

وكان الحسن يروي هذا الحديث أيضاً ولكن حمل إليه رجل كيساً ورزمة من رقيق ثياب خراسان فرد ذلك وقال‏:‏ من جلس مجلسي هذا وقبل من الناس مثل هذا لقي الله عز وجل يوم القيامة وليس له خلاق‏.‏

وهذا يدل على أن أمر العالم والواعظ أشد في قبول العطاء‏.‏

وقد كان الحسن يقبل من أصحابه‏.‏

وكان إبراهيم التيمي يسأل من أصحابه الدرهم والدرهمين ونحوه ويعرض عليه غيرهم المئين فلا يأخذها‏.‏

وكان بعضهم إذا أعطاه صديقه شيئاً يقول‏:‏ اتركه عندك وانظر إن كنت بعد قبوله في قلبك أفضل مني قبل القبول فأخبرني حتى آخذه وإلا فلا وأمارة هذا أن يشق عليه الرد لو رده ويفرح بالقبول ويرى المنة على نفسه في قبول صديقه هديته فإن علم أنه يمازجه منة فأخذه مباح ولكنه مكروه عند الفقراء الصادقين‏.‏

وقال بشر‏:‏ ما سألت أحداً قط شيئاً إلا سرياً السقطي لأنه قد صح عندي زهده في الدنيا فهو يفرح بخروج الشيء من يده ويتبرم ببقائه عنده فأكون عوناً له على ما يحب‏.‏

وجاء خراساني إلى الجنيد رحمه الله بمال وسأله أن يأكله فقال‏:‏ أفرقه على الفقراء فقال‏:‏ ما أريد هذا‏.‏

قال‏:‏ ومتى أعيش حتى آكل هذا قال‏:‏ ما أريد أن تنفقه في الخل والبقل بل في الحلاوات والطيبات فقبل ذلك منه فقال الخراساني‏:‏ ما أجد في بغداد أمن علي منك فقال الجنيد‏:‏ ولا ينبغي أن يقبل إلا من مثلك‏.‏

الثاني‏:‏ أن يكون للثواب المجرد وذلك صدقة أو زكاة فعليه أن ينظر في صفات نفسه هل هو مستحق للزكاة فإن اشتبه عليه فهو محل شبهة وقد ذكرنا تفصيل ذلك كتاب أسرار الزكاة‏.‏

وإن كانت صدقة وكان يعطيه لدينه فلينظر إلى باطنه فإن كان مقارفاً لمعصية في السر يعلم أن المعطي لو علم ذلك لنفر طبعه ولما تقرب إلى الله بالتصدق عليه فهذا حرام أخذه كما لو أعطاه لظنه أنه عالم أو علوي ولم يكن فإن أخذه حرام محض لا شبهة فيه‏.‏

الثالث‏:‏ أن يكون غرضه السمعة والرياء والشهرة فينبغي أن يرد عليه قصده الفاسد ولا يقبله إذ يكون معيناً له على غرضه الفاسد‏.‏

وكان سفيان الثوري يرد ما يعطي ويقول‏:‏ لو علمت أنهم لا يذكرون ذلك افتخاراً به لأخذت وعوتب بعضهم في رد ما كان يأتيه من صلة فقال‏:‏ إنما أراد صلتهم إشفاقاً عليهم ونصحاً لهم لأنهم يذكرون ذلك ويحبون أن يعلم به فتذهب أموالهم وتحبط أجورهم‏.‏

وأما غرضه في الأخذ فينبغي أن ينظر‏:‏ أهو محتاج إليه فيما لا بد منه أو هو مستغن عنه فإن كان محتاجاً إليه وقد سلم من الشبهة والآفات التي ذكرناها في المعطي فالأفضل له الأخذ قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما المعطي من سعة بأعظم أجراً من الآخذ إذا كان محتاجاً ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من أتاه شيء من هذا المال من غير مسألة ولا استشراف فإنما هو رزق ساقه الله إليه ‏"‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ فلا يرده ‏"‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ من أعطي ولم يأخذ سأل ولم يعطَ‏.‏

وقد كان سري السقطي يوصل إلى أحمد بن حنبل رحمة الله عليهما شيئاً فرده مرة فقال له السري‏:‏ يا أحمد احذر آفة الرد فإنها أشد من آفة الأخذ فقال له أحمد‏:‏ أعد علي ما قلت‏!‏ فأعاده فقال أحمد‏:‏ ما رددت عليك إلا لأن عندي قوت شهر فاحبسه لي عندك فإذا كان بعد شهر فأنفذه إلي‏.‏

وقد قال بعض العلماء‏:‏ يخاف في الرد مع الحاجة عقوبة من ابتلاء بطمع أو دخول في شبهة أو غيره فأما إذا كان ما أتاه زائداً على حاجته فلا يخلو‏:‏ إما أن يكون حاله الاشتغال بنفسه أو التكفل بأمور الفقراء والإنفاق عليهم لما في طبعه من الرفق والسخاء فإن كان مشغولاً بنفسه فلا وجه لأخذه وإمساكه إن كان طالباً طريق الآخرة فإن ذلك محض إتباع الهوى وكل عمل ليس لله فهو سبيل الشيطان أو داعٍ إليه ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه ثم له مقامان‏:‏ أحدهما أن يأخذ في العلانية ويرد في السر أو يأخذ في العلانية ويفرق في السر وهذا مقام الصديقين وهو شاق على النفس لا يطيقه إلا من اطمأنت نفسه بالرياضة‏.‏

والثاني أن يترك ولا يأخذ ليصرفه صاحبه إلى من هو أحوج منه أو يأخذ ويوصل إلى من هو أحوج منه فيفعل كليهما في السر أو كليهما في العلانية وقد ذكرنا هل الأفضل إظهار الأخذ أو إخفاؤه في كتاب أسرار الزكاة مع جملة من أحكام الفقر فليطلب من موضعه‏.‏

وأما امتناع أحمد بن حنبل عن قبول عطاء سري السقطي رحمهما الله فإنما كان لاستغنائه عنه إذ كان عنده قوت شهر ولم يرض لنفسه أن يشتغل بأخذه وصرفه إلى غيره فإن في ذلك آفات وأخطاراً والورع يكون حذراً من مظان الآفات إذا لم يأمن مكيدة الشيطان على نفسه‏.‏

وقال بعض المجاورين بمكة‏:‏ كانت عندي دراهم أعددتها للإنفاق في سبيل الله فسمعت فقيراً قد فرغ من طوافه وهو يقول بصوت خفي‏:‏ أنا جائع كما ترى عريان كما ترى فما ترى يا من يرى ولا يُرى فنظرت فإذا عليه خلقان لا تكاد تواريه فقلت في نفسي‏:‏ لا أجد لدراهمي موضعاً أحسن من هذا فحملتها إليه فنظر إليها ثم أخذ منها خمسة دراهم وقال‏:‏ أربعة ثمن مئزرين ودرهم أنفقه ثلاثة فلا حاجة بي إلى الباقي فرده‏.‏

قال‏:‏ فرأيته الليلة الثانية وعليه مئزران جديدان فهجس في نفسي منه شيء فالتفت إلي فأخذ بيدي فأطافني معه أسبوعاً كل شوطاً منها على جوهر من معادن الأرض يتخشخش تحت أقدامنا إلى الكعبين‏:‏ منها ذهب وفضة وياقوت ولؤلؤ وجوهر ولم يظهر ذلك للناس فقال‏:‏ هذا كله قد أعطانيه فزهدت فيه وآخذ من أيدي الخلق لأن هذه أثقال وفتنة وذلك للعباد فيه رحمة ونعمة والمقصود من هذا‏:‏ أن الزيادة على قدر الحاجة إنما تأتيك ابتلاء وفتنة لينظر الله إليك ماذا تعمل فيه وقدر الحاجة يأتيك رفقاً بك فلا تغفل عن الفرق بين الرفق والابتلاء‏.‏

قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملاً ‏"‏‏.‏

وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا حق لابن آدم إلا في ثلاث‏:‏ طعام يقيم صلبه وثوب يواري عورته وبيت يكنه فما زاد فهو حساب ‏"‏‏.‏

فإذن أنت في أخذ قدر الحاجة من هذه الثلاث مثاب وفيما زاد عليه أن لم تعصر الله متعرض للحساب وإن عصيت الله فأنت متعرض للعقاب‏.‏

ومن الاختبار أيضاً‏:‏ أن تعزم على ترك لذة من اللذات تقرباً إلى الله تعالى وكسراً لصفة النفس فتأتيك عفواً صفواً لتمتحن بها قوة عقلك فالأولى الامتناع عنها فإن النفس إذا رخص لها في نقض العزم ألفت نقض العهد وعادت لعادتها ولا يمكن قهرها فرد ذلك مهم وهو الزهد فإن أخذتها وصرفته إلى محتاج فهو غاية الزهد ولا يقدر عليه إلا الصديقون‏:‏ وأما إذا كانت حالك السخاء والبذل والتكفل بحقوق الفقراء وتعهد جماعة من الصلحاء فخذ ما زاد على حاجتك فإنه غير زائد على حاجة الفقراء وبادر به إلى الصرف إليهم ولا تدخره إن إمساكه ولو ليلة واحدة فيه فتنة واختبار فربما يحلو في قلبك فتمسكه فيكون فتنة عليك وقد تصدى لخدمة الفقراء جماعة اتخذوها وسيلة إلى التوسع في المال والتنعم في المطعم والمشرب وذلك هو الهلاك‏.‏

ومن كان غرضه الرفق وطلب الثواب به فله أن يستقرض على حسن الظن بالله لا على اعتماد السلاطين الظلمة فإن رزقه الله من حلال قضاه‏.‏

وغن مات قبل القضاء قضاه الله تعالى عنه وأرضى غرماءه وذلك بشرط أن يكون مكشوف الحال عند من يقرضه فلا يغر المقرض ولا يخدعه بالمواعيد بل يكشف حاله عنده ليقدم على إقراضه على بصيرة ودين مثل هذا الرجل واجب أن يقضى من مال بيت المال ومن الزكاة وقد قال تعالى‏:‏ ‏"‏ ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله ‏"‏ قيل معناه‏:‏ ليبع أحد ثوبيه‏.‏

وقيل معناه‏:‏ فليستقرض بجاهه فذلك مما آتاه الله‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن لله تعالى عباداً ينفقون على قدر بضائعهم ولله عباد ينفقون على قدر حسن ومات بعضهم فأوصى بماله لثلاث طوائف‏:‏ الأقوياء والأسخياء والأغنياء‏.‏

فقيل‏:‏ من هؤلاء

فقال‏:‏ أما الأقوياء فهم أهل التوكل على الله تعالى وأما الأسخياء فهم أهل حسن الظن بالله تعالى وأما الأغنياء فهم أهل الانقطاع إلى الله تعالى‏.‏

فإذن مهما وجدت هذه الشروط فيه وفي المال وفي المعطي فليأخذه وينبغي أن يرى ما يأخذه من الله لا من المعطي لأن المعطي واسطة قد سخر للعطاء وهو مضطر إليه بما سلط عليه من الدواعي والإرادات والاعتقادات وقد حكي أن بعض الناس دعا شقيقاً في خمسين من أصحابه فوضع الرجل مائدة حسنة فلما قعد قال لأصحابه‏:‏ إن هذا الرجل يقول‏:‏ من لم يرن صنعت هذا الطعام وقدمته فطعامي عليه حرام فقاموا كلهم وخرجوا إلا شاباً منهم كان دونهم في الدرجة فقال صاحب المنزل لشقيق‏:‏ ما قصدت بهذا قال أردت أن أختبر توحيد أصحابي كلهم‏.‏

وقال موسى عليه السلام‏:‏ يا رب جعلت رزقي هكذا على أيدي بني إسرائيل يغديني هذا يوماً ويعشيني هذا ليلة فأوحى الله تعالى إليه‏:‏ هكذا أصنع بأوليائي أجري أرزاقهم على أيدي البطالين من عبادي ليؤجروا فيهم‏.‏

فلا ينبغي أن يرى المعطي إلا من حيث أنه مسخر مأجور من الله تعالى نسأل الله حسن التوفيق لما يرضاه‏.‏

آداب الفقير المضطر فيه

اعلم أنه قد وردت مناه كثيرة في السؤال وتشديدات وورد فيه أيضاً ما يدل على الرخصة إذ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ للسائل حق ولو جاء على فرس ‏"‏‏.‏

وفي الحديث‏:‏ ‏"‏ ردوا السائل ولو بظلف محرق ‏"‏‏.‏

ولو كان السؤال حراماً مطلقاً لما جاز إعانة المتعدي على عدوانه والإعطاء إعانة فالكاشف للغطاء فيه أن السؤال حرام في الأصل وإنما يباح بضرورة أو حاجة مهمة قريبة من الضرورة فإن كان عنها بد فهو حرام وإنما قلنا إن الأصل فيه التحريم لأنه لا ينفك عن ثلاثة أمور محرمة‏:‏ الأول‏:‏ إظهار الشكوى من الله تعالى إذ السؤال إظهار للفقر وذكر لقصور نعمة الله تعالى عنه وهو عين الشكوى وكما أن العبد المملوك لو سأل لكان سؤاله تشنيعاً على سيده فكذلك سؤال العباد تشنيع على الله تعالى وهذا ينبغي أن يحرم ولا يحل إلا لضرورة كما تحل الميتة‏.‏

الثاني‏:‏ أن فيه إذلال السائل نفسه لغير الله تعالى وليس للمؤمن أن يذل نفسه لغير الله بل عليه أن يذل نفسه لمولاه فإن فيه عزه فأما سائر الخلق فإنهم عباد أمثاله فلا ينبغي أن يذل لهم إلا لضرورة وفي السؤال ذل للسائل بالإضافة إلى المسؤول‏.‏

الثالث‏:‏ أنه لا ينفك عن إيذاء المسؤول غالباً لأنه ربما لا تسمح نفسه بالبذل عن طيب قلب منه فإن بذل حياء من السائل أو رياء فهو حرام على الآخذ وإن منع ربما استحيا وتأذى في نفسه بالمنع إذ يرى نفسه في صورة البخلاء ففي البذل نقصان ماله وفي المنع نقصان جاهه وكلاهما مؤذيان والسائل هو السبب في الإيذاء والإيذاء حرام إلا بضرورة ومهما فهمت هذه المحذورات الثلاث فقد فهمت قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ مسألة الناس من الفواحش ما أحل من الفواحش غيرها ‏"‏ فانظر كيف سماها فاحشة ولا يخفى أن الفاحشة إنما تباح لضرورة كما يباح شرب الخمر لمن غص بلقمة وهو لا يجد غيره وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من سأل عن غنى فإنما يستكثر من جمر جهنم ‏"‏ ‏"‏ ومن سأل وله ما يغنيه جاء يوم القيامة ووجهه عظم يتقعقع وليس عليه لحم ‏"‏ وفي لفظ آخر ‏"‏ كانت مسألته خدوشاً وكدوحاً في وجهه ‏"‏ وهذه الألفاظ صريحة في التحريم والتشديد‏.‏

وبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً على الإسلام فاشترط عليهم السمع والطاعة ثم قال لهم كلمة خفية ‏"‏ ولا تسألوا الناس شيئاً ‏"‏‏.‏

وكان صلى الله عليه وسلم يأمر كثيراً بالتعفف عن السؤال ويقول‏:‏ ‏"‏ من سألنا أعطيناه ومن استغنى أغناه الله ومن لم يسألنا فهو أحب إلينا ‏"‏‏.‏

وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ استغنوا عن الناس وما قل من السؤال فهو خير ‏"‏ قالوا‏:‏ ومنك يا وسمع عمر رضي الله عنه سائلاً يسأل بعد المغرب فقال لواحد من قومه‏:‏ عش الرجل فعشاه ثم سمعه ثانياً يسأل فقال‏:‏ ألم أقل لك عش الرجل قال‏:‏ قد عشيته فنظر عمر فإذا تحت يده مخلاة مملوءة خبزاً فقال‏:‏ لست سائلاً ولكنك تاجر ثم أخذ المخلاة ونثرها بين يدي إبل الصدقة وضربه بالدرة وقال‏:‏ لا تعد‏.‏

ولولا أن سؤاله كان حراماً لما ضربه بالدرة ولا أخذ مخلاته ولعل الفقيه الضعيف المنة الضيق الحوصلة يستبعد هذا من فعل عمر ويقول‏:‏ أما ضربه فهو تأديب وقد ورد الشرع بالتعزير وأما أخذه ماله فهو مصادرة والشرع لم يرد بالعقوبة بأخذ المال فكيف استجازه وهو استبعاد مصدره القصور في الفقه فأين يظهر فقه الفقهاء كلهم في حوصلة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وإطلاعه على أسرار دين الله ومصالح عباده أفترى أنه لم يعلم أن المصادرة بالمال غير جائزة أو علم ذلك ولكن أقدم عليه غضباً في معصية الله وحاشاه أو أراد الزجر بالمصلحة بغير طريق شرعها نبي الله وهيهات فإذن ذلك أيضاً معصية بل الفقه الذي لاح له فيه أنه رآه مستغنياً عن السؤال وعلم أن من أعطاه شيئاً فإنما أعطاه على اعتقاد أنه محتاج وقد كان كاذباً فلم يدخل في ملكه بأخذه مع التلبيس وعسر تمييز ذلك ورده إلى أصحابه إذ لا يعرف أصحابه بأعيانهم فبقي مالاً لا مالك له فوجب صرفه إلى المصالح وإبل الصدقة وعلفها من المصالح ويتنزل أخذ السائل مع إظهار الحاجة كاذباً كأخذ العلوي بقوله إني علوي وهو كاذب‏.‏

فإنه لا يملك ما يأخذه كأخذ الصوفي الصالح وهو في الباطن مقارف لمعصية لو عرفها المعطي لما أعطاه - وقد ذكرنا في مواضع أن ما أخذوه على هذا الوجه لا يملكونه وهو حرام عليهم ويجب عليهم الرد إلى مالكه فاستدل بفعل عمر رضي الله عنه على صحة هذا المعنى الذي يغفل عنه كثير من الفقهاء وقد قررناه في مواضع ولا تستدل بغفلتك عن هذا الفقه على بطلان فعل عمر‏.‏

فإذا عرفت أن السؤال يباح لضرورة فاعلم أن الشيء إما أن يكون مضطراً إليه أو محتاجاً إليه حاجة مهمة أو خفيفة أو مستغنى عنه فهذه أربعة أحوال‏:‏ أما المضطر إليه فهو سؤال الجائع عند خوفه على نفسه موتاً أو مرضاً وسؤال العاري وبدنه مكشوف ليس معه ما يواريه وهو مباح مهما وجدت بقة الشروط في المسؤول بكونه مباحاً والمسؤول منه بكونه راضياً في الباطن وفي السائل بكونه عاجزاً عن الكسب فإن القادر على الكسب وهو يطال له السؤال إلا إذا استغرق طلب العلم أوقاته وكل من له خط فهو قادر على الكسب بالوراقة‏.‏

وأما المستغني فهو الذي يطلب شيئاً وعنده مثله وأمثاله فسؤاله حرام قطعاً وهذان طرفان واضحان‏.‏

وأما المحتاج حاجة مهمة فكالمريض الذي يحتاج إلى دواء ليس يظهر خوفه لو لم يستعمله ولكن لا يخلو عن خوف وكمن له جبة لا قميص تحتها في الشتاء وهو يتأذى بالبرد تأذياً لا ينتهي إلى حد الضرورة وكذلك من يسأل لأجل الكراء وهو قادر على المشي بمشقة فهذا أيضاً ينبغي أن تسترسل عليه الإباحة لأنها أيضاً حاجة محققة ولكن الصبر عنه أولى وهو بالسؤال تارك للأولى ولا يسمى سؤاله مكروهاً مهما صدق في السؤال وقال ليس تحت جبتي قميص والبرد يؤذيني أذىً أطيقه ولكن يشق علي فإذا صدق فصدقه يكون كفارة لسؤاله إن شاء الله تعالى‏.‏

وأما الحاجة الخفيفة فمثل سؤال قميصاً ليلبسه فوق ثيابه عند خروجه ليستر الخروق من ثيابه عن أعين الناس وكمن يسأل لأجل الأدم وهو واجد للخبز وكمن يسأل الكراء لفرس في الطريق وهو واجد كراء الحمار أو يسأل كراء المحمل وهو قادر على الراحلة فهذا ونحوه إن كان فيه تلبيس حال بإظهار حاجة غير هذه فهو حرام وإن لم يكن وكان فيه شيء من المحذورات الثلاثة من الشكوى والذل وإيذاء المسؤول فهو حرام لأن مثل هذه الحاجة لا تصلح لأن تباح بها هذه المحذورات وإن لم يكن فيها شيء من ذلك فهو مباح مع الكراهة‏.‏

فإن قلت‏:‏ فكيف يمكن إخلاء السؤال عن هذه المحذورات فاعلم أن الشكوى تندفع بأن يظهر الشكر لله والاستغناء عن الخلق ولا يسأل سؤال محتاج ولكن يقول‏:‏ أنا مستغن بما أملكه ولكن تطالبني رعونة النفس بثوب فوق ثيابي وهو فضلة عن الحاجة وفضول من النفس فيخرج به عن حد الشكوى وأما الذل فبأن يسأل أباه أو قريبه أو صديقه الذي يعلم أنه لا ينقصه ذلك في عينه ولا يزدريه بسبب سؤاله أو الرجل السخي الذي قد أعد ماله لمثل هذه المكارم فيفرح بوجود مثله ويتقلد منه منة بقبوله فيسقط عنه الذل بذلك فإن الذل لازم للمنة لا محالة‏.‏

وأما الإيذاء فسبيل الخلاص عنه أن لا يعين شخصاً بالسؤال بعينه بل يلقي الكلام عرضاً بحيث لا يقدم على البذل إلا متبرع بصدق الرغبة وإن كان في القوم شخص مرموق لو لم يبذل لكان يلام فهذا إيذاء فإنه ربما يبذل خوفاً من الملامة ويكون الأجب إليه في الباطن الخلاص لو قدر عليه من غير الملامة وأما إذا كان يسأل شخصاً معيناً فينبغي أن لا يصرح بل يعرض تعريضاً يبقى له سبيلاً إلى التغافل إن أراد فإذا لم يتغافل مع القدرة عليه فذلك لرغبته وأنه غير متأذٍ به وينبغي أن يسأل من لا يستحيا منه لو رده أو تغافل عنه فإن الحياء من السائل يؤذي كما أن الرياء مع غير السائل يؤذي‏.‏

فإن قلت‏:‏ فإذا أخذ مع العلم بأن باعث المعطي هو الحياء منه أو من الحاضرين ولولاه لما ابتدأه به فهل هو حلال أو شبهة فأقول‏:‏ ذلك حرام محض لا خلاف فيه بين الأئمة وحكمه حكم أخذ مال الغير بالضرب والمصادرة إذا لا فرق بين أن يضرب ظاهر جلده بسياط الخشب أو يضرب باطن قلبه بسوط الحياء وخوف الملام وضرب الباطن أشد نكاية في قلوب العقلاء ولا يجوز أن يقال هو في الظاهر قد رضي به وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إنما أحكم بالظاهر والله يتولى السرائر ‏"‏ فإن هذه الضرورة القضاء في فصل الخصومات إذ لا يمكن ردهم إلى البواطن وقرائن الأحوال فاضطروا إلى الحكم بظاهر القول باللسان مع أنه ترجمان كثير الكذب ولكن الضرورة دعت إليه وهذا سؤال عما بين العبد وبين الله تعالى والحاكم فيه أحكم الحاكمين والقلوب عنده كالألسنة عند سائر الحكام فلا تنظر في مثل هذا إلا إلى قلبك وإن أفتوك وأفتوك فإن المفتي معلم للقاضي والسلطان ليحكموا في عالم الشهادة ومفتي القلوب هم علماء الآخرة وبفتواهم النجاة من سلطان الآخرة كما أن بفتوى الفقيه النجاة من سطوة سلطان الدنيا فإذا ما أخذه مع الكراهة لا يملكه بينه وبين الله تعالى ويجب عليه رده إلى صاحبه فإن كان يستحيي من أن يسترده ولم يسترده فعليه أن يثيبه على ذلك بما يساوي قيمته في معرض الهدية والمقابلة ليتفصى عن عهدته فإن لم يقبل هديته فعليه أن يرد ذلك إلى ورثته فإن تلف في يده فهو مضمون عليه بينه وبين الله تعالى وهو عاص بالتصرف فيه وبالسؤال الذي حصل به الأذى‏.‏

فإن قلت‏:‏ فهذا أمر باطن يعسر الإطلاع عليه فكيف السبيل إلى الخلاص منها فربما يظن السائل أنه راض ولا يكون هو في الباطن راضياً فأقول‏:‏ لهذا ترك المتقون السؤال رأساً فما كانوا يأخذون من أحد شيئاً أصلاً فكان بشر لا يأخذ من أحد أصلاً إلا من السري رحمة الله عليهما وقال‏:‏ لأني علمت أنه يفرح بخروج المال من يده وأنا أعينه على ما يحب وإنما عظم النكير في السؤال وتأكد الأمر بالتعفف لهذا لأن الأذى إنما يحل بضرورة‏:‏ وهو أن يكون السائل مشرفاً على الهلاك ولم يبق له سبيل إلى الخلاص ولم يجد من يعطيه من غير كراهة وأذى فيباح له ذلك كما يباح له أكل لحم الخنزير وأكل لحم الميتة فكان الامتناع طريق الورعين ومن أرباب القلوب من كان واثقاً ببصيرته في الإطلاع على قرائن الأحوال فكانوا يأخذون من بعض الناس دون البعض ومنهم من كان لا يأخذ إلا من أصدقائه ومنهم من كان يأخذ مما يعطي بعضاً ويرد بعضاً كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكبش والسمن والأقط وكان هذا يأتيهم من غير سؤال فإن ذلك لا يكون إلا عن رغبة ولكن قد تكون رغبته طمعاً في جاه أو طلباً للرياء والسمعة فكانوا يحترزون من ذلك فأما السؤال فقد امتنعوا عنه رأساً إلا في موضعين‏:‏ أحدهما الضرورة فقد سأل ثلاثة من الأنبياء في موضع الضرورة‏:‏ سليمان وموسى والخضر عليهم السلام‏.‏

ولا شك في أنهم ما سألوا إلا من علموا أنه يرغب في إعطائهم‏.‏

والثاني‏:‏ السؤال من الأصدقاء والإخوان فقد كانوا يأخذون ما لهم بغير سؤال واستئذان لأن أرباب القلوب علموا أن المطلوب رضا القلب لا نطق اللسان وقد كانوا وثقوا بإخوانهم أنهم كانوا يفرحون بمباسطتهم فإذا كانوا يسألون الإخوان عند شكهم في اقتدار إخوانهم على ما يريدونه وإلا فكانوا يستغنون عن السؤال وحد إباحة السؤال أن تعلم أن المسؤول بصفة لو علم ما بك من الحاجة لابتدأك دون السؤال فلا يكون لسؤالك تأثير إلا بتعريف حاجتك فأما في تحريكه بالحياء وإثارة داعيته بالحيل فلا ويتصدى للسائل حالة لا يشك فيها في الرضا بالباطن وحالة لا يشك في الكراهة ويعلم ذلك بقرينة الأحوال فالأخذ في الحالة الأولى حلال طلق وفي الثانية سحت ويتردد بين الحالتين أحوال يشك فيها فليستفت قلبه فيها وليترك حزاز القلب فإنه الإثم وليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه وإدراك ذلك بقرائن الأحوال سهل على من قويت فطنته وضعف حرصه وشهوته‏.‏

فإن قوي الحرص وضعفت الفطنة تراءى له ما يوافق غرضه فلا يتفطن للقرائن الدالة على الكراهة وبهذه الدقائق يطلع على سر قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه ‏"‏ وقد أوتي جوامع الكلم لأن من لا كسب له ولا مال ورثه من كسب أبيه أو أحد قرابته فليأكل من أيدي الناس وإن أعطى بغير سؤال فإنما يعطي بدينه ومتى يكون باطنه بحيث لو انكشف باطنه لا يعطي بدينه فيكون ما يأخذه حراماً وإن أعطي بسؤال فأين من يطيب قلبه بالعطاء إذا سئل وأين من يقتصر في السؤال على حد الضرورة فإذا فتشت أحوال من يأكل من أيدي الناس علمت أن جميع ما يأكله أو أكثره سحت وأن الطيب هو الكسب الذي اكتسبته بحلالك أنت أو مورثك فإذن بعيد أن يجتمع الورع مع الأكل من أيدي الناس فنسأل الله تعالى أن يقطع طمعنا عن غيره وأن يغنينا بحلاله عن حرامه وبفضله عمن سواه بمنه وسعة جوده فإنه على ما يشاء قدير‏.‏